وين الملايين
تدفعني، في أحيان كثيرة، رغبة للاستماع إلى أغنية ما، فأبحث عنها في "يوتيوب"، وأستمع إليها من هناك، ثم أشرد لسبب من الأسباب، وأنسى "يوتيوب" الذي يبدأ بانتقاء الأغاني بحسب ذوقه، ويدسّها لي، فأستمع إليها ساهيا، إلى أن أنتبه فأتابع الاستماع، إن كانت الأغنية مريحةً لأذني أو أوقف "يوتيوب" إن لم تكن كذلك. وفي كل مرة يحدث ذلك، تتسرّب إلى أذني أكثر من عشر أغان، قبل أن أنتبه إلى أن "يوتيوب" وقد انتزع الزمام مني، وأفلت قائمته العشوائية، فأستردُّ منه الزمام، وأوجهه إلى ما أريد الاستماع إليه، أو أوقف "يوتيوب". ولكن ما لفت نظري أنني، في أغلب المرات، أفيق من غفوة وعيي بواسطة أغنية "وين الملايين" التي يبدو أنها من المقطوعات المدعومة في "يوتيوب"، والتي تتناوب فيها على الميكروفون ثلاث صبايا عربيات تكاد حمم بركانية تتدفق من حناجرهن، يصرخن من أعماق صدورهن بجملة من الأسئلة: "وين الملايين؟" و"الشعب العربي وين؟" و"الغضب العربي وين؟" و"الدم العربي وين؟"، فيقبّ شعر بدني، ويرتفع في دمي الأدرينالين، وأتساءل مع الصبايا المتسائلات: فعلا يا جماعة وين الملايين؟ ويذهب بي اللاوعي إلى إجابة آلية، أن "الملايين في البنوك الأجنبية"، ثم أنتبه إلى أن الملايين التي تواردت إلى ذهني لم تعد كذلك، فالذي في البنوك الأجنبية هو المليارات الآن، أما الملايين التي تسأل عنها الصبايا، وتحاول استنهاضها، فمبعثرة في المنافي التي تحولت إلى أوطان، والأوطان التي تحولت إلى مناف، فأصبحت لدى من هربوا إلى أوطانهم هموم جديدة. أما من اضطر للبقاء في المنفى، فالمنفيُّ غريب لا كرامة ولا حقوق له، حتى التي تضمنها قوائم حقوق الإنسان، ومن ليس له حق ليس له صوت. لذلك لن تتمكّن الصبايا من رؤية الملايين، لأن مسلوبي الكرامة والحقوق يضمحلون إلى درجة يصبح من الصعب معها رؤيتهم.
أما الشعب العربي الذي تسأل الصبايا عنه فلم يعد له وجود، لأن العروبة لم تعد رابطا يعتدّ به، وتنشط الآن روابط أوثق من روابط العروبة، أو حتى من الروابط الوطنية الإقليمية الأضيق. أما الشعب العربي الذي كان له في السابق وجود، فإضافة إلى المنافي تم توزيعه على الخنادق، للأخذ بثاراتٍ لا تموت، ولا تشكل الغبراء وداحس حتى نقطة في بحرها. ومن رفضت قدماه الذهاب به إلى الخندق قادته إلى السجون. أما البقية الباقية فقد لجأت إلى ظلال الحيطان التي يهرع إليها طالبو السترة كلما يقرع ناقوس الخطر، وهم لا يريدون العنب، ولا يريدون حتى سلتهم. أما الغضب العربي فهو قادم، ولكن بعد أن ينتهي العرب من العدّ إلى العشرة، لأن أولئك الذين تورّطوا وغضبوا قبل أن ينتهوا من العدّ تشتت شملهم، أو فقدوا أرواحهم، حيث ابتلعتهم البحار وجمّدهم على الحدود عند الأسلاك الشائكة صقيع الشمال، أو تاهوا بين الحدود والمخيمات وفي الصحارى والغابات. أما الدم العربي فلا تسألن عنه، فما لم يشربه التراب تيبّس على بلاط الأقبية المظلمة، وتلوثت به أيد كثيرة.
تسألن، يا صبايا، عن أشياء لم يعد لها وجود في محاولةٍ لاستنهاض ما أصبح من المستحيل استنهاضه بالأغاني الحماسية، وبقصائد من نمط "تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا"، أو "لا تسل عني ولا عن مذهبي أنا بعثي اشتراكي عربي". هذه عملة فقدت قيمتها أكثر من الليرة، ولم تعد تنفع، وهي بالأصل لم تكن تنفع ولم يكن لها دور إلا تبليد المشاعر تجاه القضايا، وكأن ذلك كان الهدف منها، لا شيء يستنهض الهمم الآن سوى ما يرتبط بكرامة الإنسان واحترام إنسانيته قبل كل شيء، وأي قضية ترتبط بغير ذلك محكومة بالفشل مسبقا، مهما كانت مقدّسة. وأخيرا، لكي تعرفن "وين الملايين" ما عليكن سوى إلقاء نظرة إلى الخلف، حيث ستجدن صورة الكولونيل بياقته العسكرية المطرّزة وعمرته المذهبة معلقة في صدر المسرح الذي تقفن على خشبته، فهو ورفاقه من الجنرالات، بدلا من تحرير ما وعدوا بتحريره، طفّشوا الملايين وقضوا عليها.