الشرعي والوحيد
على الرغم من توفر المؤسسات القمعية القوية التي تسيطر وتتحكّم بكل نفس في البلدان التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية وولاء هذه المؤسّسات للطغم الحاكمة أو للفرد الحاكم، ورغم أنّ هذه المؤسسات تؤمّن خضوع الجماهير والمؤسسات المدنية للحاكم، فإنّ هذه الطغم وهؤلاء الحكام لا يهدأ لهم بال قبل أن يتوفر لهم الغطاء الشرعي، فنرى الجنرال الذي جاء إلى القصر على ظهر دبابة يحرص أن يضفي على سلطته الصبغة الشرعية في أسرع وقت، فيُجري، على وجه السرعة، انتخاباتٍ يفوز فيها، وتصبح هذه الانتخابات الغطاء الشرعي لحكمه، مع أنّ الدبابة التي جاء على ظهرها تبقى الضامن الحقيقي لبقائه. يتابع الحاكم الذي أصبح شرعياً حكمه بناء على وثيقة شرعية، هي الدستور الذي يسمح له بالبقاء فترتين انتخابيتين على سبيل المثال، فيبقى في السلطة بين العشرة والأربعة عشر عاماً، يصبح بقاؤه، بحسب هذه الوثيقة، بعدها غير شرعي، ولذلك عليه المغادرة. ولكن لأنّ المغادرة ليست من شيم الأبطال أمثاله، وبما أنّ هناك ضرورة لتغيير طرفٍ من طرفي المعادلة، فإنّه يقرّر تغيير الطرف الأضعف، وهو الدستور، فيقوم بعملية دوزان جديدة لهذه الشرعية، تتمثل بإعادة ضبط الإعدادات للوثيقة الشرعية (الدستور)، تتحدّد فيها المدة التي يمكن فيها لحاكم البقاء مدى الحياة، في حال جرى انتخابه. وهكذا يصبح وجوده غير الشرعي شرعياً.
ولكنّ مؤسّسات أخرى من مخلفات العهد البائد قد تنغّص عليه عيشه بمظاهر مختلفة من النشاط المعارض له، والمزعزع لشرعيته غير الراسخة. وأولى هذه المؤسّسات ربما تكون النقابات التي تنظم ضدّه أو ضد قراراته أنشطة متنوعة تقضّ مضجعه، فيعيد ضبطها هي الأخرى، فيحوّلها من مؤسّسات مستقلة إلى مؤسّسات تابعة، وفي الوقت نفسه (شرعية)، وكذلك يمكن الحديث عن البرلمان والمؤسّسات الشبيهة الأخرى التي تجري إعادة ضبطها، والأمر ينطبق على بقية المؤسّسات التي يجري ترويضها جميعاً، بحيث يصبح من المستحيل أن يتعرّض أي قرار يتخذه الحاكم أو أي سلوك يقوم به لأي نقد أو اعتراض. بكلام آخر، تحويل المؤسسة الشرعية من جهاز يضمن مناعة الدولة والمجتمع ضد فيروس "اللاشرعية" إلى قناة توفر تغلغل هذا الفيروس، ووصوله بأمان إلى عمق جسم هذه الدولة، وبالتالي تحوّلها من بدن معافى إلى مستعمرة للطفيليات التي ستدمر كيانها عاجلاً أم آجلاً.
ويمكن وصف هذه الشرعية الجديدة التي حلت بهذه المؤسسات بالشرعية المزيّفة أو المقنعة التي يعدّ الهدف الوحيد منها تمرير كلّ شيء لا شرعي، لا بل تجريم كلّ نشاط يدعو إلى الشرعية الحقيقية واعتباره غير شرعي، وبالتالي قلب المفاهيم وجعلها تبدو عكس ما تعنيه، فقانون الطوارئ مثلاً الذي يعني من الاسم الذي أطلق عليه أنّه طارئ يستمر فترة قصيرة يصبح، بفضل الشرعية المزيفة، قانوناً يصلح لاعتماده مدى الحياة، فأيّ قانون طوارئ ذلك الذي نولد ونموت في ظله.
تنقلب المصطلحات تحت عباءة "الشرعية المزيفة" إلى عكس معانيها، ضرورة الشرعية للمستبد غايتها، بالإضافة إلى توفير سلاسة بقائه في السلطة، توفير ظروف مريحة لتعامل القانون معه، في حال مغادرته لسبب ما هذه السلطة، فهو من حيث المبدأ قد تصرّف بحسب القوانين. ومن الأمثلة الواضحة على هذه الغاية المحاكمات لمعتقلين أمضوا في السجون من دون محاكمة فترات طويلة، حيث تجري، قبل إطلاق سراحهم بفترة قصيرة، محاكمتهم والحكم عليهم بفترات سجن تتطابق مع عدد السنوات التي قضوها خلف القضبان. وهكذا يكون سجنهم من حيث المبدأ قانونياً، وليس تعسفياً ولا شرعي. في بعض البلدان العربية، إذا اغتصب رجل امرأة يُلزمه القانون بالزواج من المرأة التي اغتصبها، وذلك لكي يتابع اغتصابها، لكن بشكل شرعي هذه المرّة. وشرعية مثل هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام أشبه بشرعية هذا الزوج المغتصب.