وهران وليلى علوي وعلّولة

05 يونيو 2015

ليلى علوي ترتدي البرنس الجزائري في افتتاح مهرجان وهران

+ الخط -
وصف الشيخ محمد بن يوسف الزيّاني وهران، ثاني أكبر مدن الجزائر سعةً وسكاناً، في مؤلفه "دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران"، بأنها ".. عظيمةٌ ذات مساحة وفخامة جسيمة، وبساتين وأشجار، ومياه عذبة وأطيار، وحبوب عديدة، وفواكه وخضر جديدة، وبروج مشيدة، وقصور معدّدة ..". كان ذلك قبل أكثر من مائتي عام، ولا تخطئ عيون زوارها الآن في ملاحظة عظيمِ مساحتها، ووفرة الأشجار والمياه فيها، وسخاء شمسها، وخير مزارعها وحقولها، وتنوّع بنيان العمائر والمنازل فيها، والتآخي الحاضر فيه بين العتيق الأندلسي السمت والحديث المديني الجديد.
وعندما تزور مدينةً أول مرة، فإنك، غالباً، ما تعمد إلى التفتيش عن الخاص الذي يُمايزها عن غيرها من مدنٍ عرفتها وزرتها. ووهران، الباهية في تسمية أخرى لها، والتي يعود بناؤها الأول إلى القرن الثالث للهجرة، يعجبك فيها هذا الاتساع الرحب، وكذا التمدّد على البحر، والروح الشعبية الأليفة التي تغشاك وأنت فيها، والبساطة الدافئة في أسواقها المكتظة. لا ترى فيها حداثةً مفرطة، وفي الوقت نفسه، لا تلحظ لها سمتاً عتيقاً يذكّرك بفاس أو مراكش، مثلاً. لا يأخذ هذا الأمر كثيراً من تفكيرك، وإنما تأخذُك النظافة الضافية في شوارع المدينة عموماً، وفي وسعك الزعم أنها واحدةٌ من أنظف المدن العربية. وقبل هذا وبعده، ثمّة اللطف والجمال الهادئ لنسائها، معطوفيْن على خفر وحياءٍ ظاهريْن، والبادي أن أغلب ساكنتها شابات وشبّان، كأنَّ إيقاعاً فتياً يطبع المدينة عموماً. 

نستمع إلى الملحون الجزائري في غير سهرةٍ هنا، وبأداءٍ أنيق، ونبتهج في افتتاح مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في دورته الثامنة بالشغف الكثير لدى أهالي المدينة بالسينما، وهم الموعودون بمشاهدة نتاجات لمبدعين من صنّاع سينما بلدهم في المهرجان، ومن سينماتٍ عربية عدة، فضلاً عن أفلامٍ مستضافة من تركيا. ولمّا أُهديت النجمة المصرية، ليلى علوي، اللباس التقليدي النسوي الجزائري، البرنس، على خشبة حفل الافتتاح، وارتدته قدّامنا، وألقت كلمتها النابهة، بإطلالة جذابة، وهي متجلببة به، ازددنا، نحن المزدحمة بنا صالة المسرح الفسيحة، إعجاباً بالممثلة التي أراد المهرجان تكريمها، تقديراً لتجربتها، والتفاتةً إلى نجمةٍ محبوبة من الجزائريين وعموم العرب. نقلت تحيةً من الشعب المصري إلى شعب الجزائر، فصفّقنا، وتحدثت، بوفاءٍ واقتدار، عن مخرجين وصنّاع سينما ونقاد وممثلين رحلوا، وهي التي لا يُنسى أن واحداً من أفلامها اسمه "بحب السيما" اعتبره نقادٌ غير قليلين من أفضل عشرة أفلام عربية في السنوات الخمس عشرة الماضية، ولا أظنهم تزيّدوا، ولا جاملوا.
هنا في وهران، قضى المخرج المسرحي الجزائري الكبير، عبد القادر علولة، في جريمة اغتيال شهيرة. يؤشر لي السائق، في الطريق إلى "مسرح عبد القادر علولة" قرب بلدية المدينة، إلى مكان الجريمة التي ارتكبها خفافيش الإرهاب، في مساءٍ رمضاني قبل واحد وعشرين عاماً، فتأتي إلى ذاكرتي مسرحياتٌ للراحل الكبير، حظيتُ بمشاهدتها في المغرب، "الأجواد" و"اللثام" وغيرهما، وكذا حديث صحافي أجريته معه، وأعتز به، وكتابتي عنه مقالة محبّة، بعيد رحيله. المسرح الذي أُعطي اسمه، عبد القادر علولة، أنيقٌ وصغير، ينتدي فيه، في أيام مهرجان الفيلم العربي، أدباء ونقاد وباحثون عن السينما والرواية. يحتل حضور فقيد المسرح العربي خواطري في المكان، وهو المجرّب الأستاذ بحق، رحمه الله.
نادتْك وهرانُ فلبِّ نداها/ وانزلْ بها لا تقصدنَّ سواها... بيت شعرٍ لعلامةٍ جزائري قديم، أقع عليه في كتاب الشيخ الوزاني، فأجدني أخذتُ بما طلب، إذ لبّيت دعوة مبهجةً إلى هذه المدينة الوديعة، حماها الله وحرسها، ومتّع ناسها وعموم أهل الجزائر بالأمن والأمان. وأحسب أن مقادير الغبطة الوفيرة التي تيسّرت لي في وهران تجعلني في حبٍّ مضاعف لها، وخصوصاً أن الرفقة الطيبة فيها مع أصدقاء عرب رائقين زادته أرطالاً بلا عدد.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.