غزّة ألماً في العنق الإسرائيلي
يقعُد الشيطان القرفصاء في العقل الإسرائيلي، على ما كتب غسّان كنفاني. وأسوأ ما في الأفعال الشيطانية أنك، غالباً، لا تقع على أغراضٍ متعيّنةٍ لها، فالشرُّ مقصودٌ لذاته. ويحدُث أن تُتعب نفسَك في تعليل مسلكٍ شيطانيٍّ ما، فتلقى حزمةً من أسبابٍ له، لكنك، في الوقت نفسه، ترتبك، عندما ترى أن في وُسع مرتكبِ هذا الفعل أن يحوز ما يريد بغير تلك الشيطانيّة في الذي يقترفه. ... شيءٌ من هذا قد يتسرّب إلى أفهامك، وأنت تحاولُ أن تعثر على تفسير كل جريمة حربٍ يرتكبها جيش العدوان، بدعمٍ وإسنادٍ من المستوى السياسي، بل بطلبٍ منه أحياناً، في مركز إيواء أو مدرسةٍ أو بين خيام نازحين في أيٍّ من مطارح قطاع غزّة، كما المذبحة التي أزهق فيها هذا الجيش، أول من أمس السبت، أرواح أزيد من مائة فلسطينيٍّ في مدرسةٍ في حي الدرج في غزّة. وينسحب سؤالٌ عمّ أراده من هذه الجريمة التي استخدَم فيها أسلحة أميركية حارقة على الذي أراده من مثيلاتٍ لها سابقات، في أتون محرقة الإبادة التي يشنّها في القطاع المنكوب منذ عشرة أشهر، في مواصي خانيونس وفي النصيرات والمغازي ورفح و... إلخ.
لا تكفي كذبة الجيش الرتيبة عن وجود مسلحين من "حماس" بين الأطفال والشبّان والشيوخ والنساء، بين الجرحى والجوعى، ليس فقط لأنه لم يُشهر، في أيٍّ من مرّات جرائمه هذه، شاهداً على صحّة ادّعاءاته السوداء، بل لأن هذا في الأصل ليس مسوّغاً لقتل الناس كيفما اتفق بالقذائف والقنابل العمياء. وإذا قلنا إن نتنياهو وأمثاله الفاشيين يريدون عقاباً جماعياً لأهل غزّة لأنّ منهم من صنعوا واقعة 7 أكتوبر، فإن سؤالاً سيظهر عن أي مدىً سيبلُغه هذا العقاب، وما إذا كان له سقفٌ أو عددٌ للغزّيين الذين يحسُن أن يُعاقَبوا. أما إذا قيل إن مشروع التهجير ما زال مقيماً في الدماغ الإسرائيلي، فإن مقداراً من ارتباكٍ ليس قليلاً سيتضمّنه السؤال عن التهجير إلى أي أرض، فالقطاع المحاصَر مغلقٌ، والفرار منه مستحيل، وليس في وسع الغزّي أن ينقذ نفسَه من الإبادة بالهروب.
تأخذُك بعض الحيرة بشأن مقاصد العدوانية القصوى في ارتكاب مذبحة حي الدرج ومثيلاتها إلى الذي أوجزه عصام سخنيني، في كتابه "الجريمة المقدّسة ... الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، عن مرجعياتٍ أولى في الذهن الإسرائيلي، عن العماليق وتعاليم يهوه في ضربهم وإبادتهم. يُسعفك الذي يشرّحُه الباحث الراحل في تفسير شهوة القتل التي بلا حدود، تجاه الفلسطيني، وكل عدو، والتي تتوطّن في المخّ الإسرائيلي الذي يرى الوحشية ضرورة، وامتثالاً لـ"ربّ الجنود". وإذا كان تفسيرٌ كهذا، بتفاصيله ومضامينه، يصلُح، إلى حد بعيد، في تظهير الأسباب وراء أفعال الطرد والتهجير والقتل والفتك لإقامة دولة إسرائيل في نكبة 1948، وفي متواليةٍ تمثلت في الاستيطان النشط وفي جولاتٍ لم تتوقّف من المذابح والمجازر في الضفة الغربية وقطاع غزّة، فالأرجح أن تعتمده في تفسير الجريمة اليومية، منذ 7 أكتوبر، والموصولة بمذابح في خانيونس ورفح وغيرهما في الاحتلال الأول (والقصير) للقطاع في 1956. ولكن تلك الأسباب التي تُردُّ إلى يهوه وتعاليمه مقرونةٌ، في هذه المرّة، بعقابٍ كان القرار أن يكون مروّعاً، لأن العدو الفلسطيني تجرّأ على سكينة اليهودي وأمنه وأمانه، في صبيحة السبت الذي حدث فيه ما أسرف نتيناهو وأركان الدعاية في أجهزته في مماثلتها بالهولوكست وبـ"11 سبتمبر".
مع التسليم بأي تفسيرٍ قد ينفع في شرح الذي يُراد شرحه، يبقى السؤال مُشرَعاً عمّ يريده نتنياهو من حربٍ لم يعُد لاستمرارها سببٌ عسكريٌّ مقنع، وعمّ يريده في غزّة عموماً، وهو الذي لم يحسم وضعاً للقطاع في أي حالٍ انتهت الحرب عليه. ... لقد تحمّس بن غوريون لاحتلال غزّة وضمّها في 1956، غير أنه، بعد أقلّ من عامين، أدرك عدم الحاجة إليها ... كتب في مذكّراته في 1957 "غزّة، بحدّ ذاتها، تمثّل ألماً في العنق في جميع الأحوال، أكانت تحت الحكم الإسرائيلي، أم حكم الأمم المتحدة، أم تحت حكم مشترك". واستطرد "غزّة لعنةٌ وخطر في جميع الأحوال، وعلينا ألّا نعرّض، من أجلها، أمننا للخطر في المستقبل، أن نصبح منبوذين في العالم". وزمن بن غوريون غير زمن نتنياهو، لكن الألم الذي تمثّله غزّة في العُنق الإسرائيلي ما زال باقياً، بدليل أنك لا تُصادف حلّاً لدى نتنياهو بشأنها، ولا تجد تفسيراً لارتكاب جريمة مدرسة حي الدرج (وغيرها) غير اتّباع نتنياهو تعاليم يهوه.