لمّا اضطهَد الروائيُّ السيناريست
لا أدّعي معرفةً طيّبةً بنتاج الراحل أخيراً في دمشق عن 79 عاماً، الفلسطيني السوري، حسن سامي يوسف، في الرواية، وقد كتب فيها ثمانية أعمال، قرأتُ الأخيريْن منها، ولا في الدراما كاتب سيناريو 15 مسلسلاً تلفزيونياً، وخمسة أفلام، غير أن ثقتي بذائقة (أو ذائقات؟) أصدقاء على جدارةٍ تجعلني أميلُ إلى الاعتداد بسويّة ما أنجز هذا الكاتب الذي درس السينما في موسكو، وعمل ممثلاً في طوْر من شبابه. أما روايتاه اللتان طالعتُهما، "على رصيف العُمر" (2020) و"عتبة الألم ..." (2022)، فالملاحظُ فيهما السرد المسترسِل بلا انضباط (هل يلزم الانضباط أصلاً؟)، ما يجعل كلّاً منهما حكياً حرّاً، يقول فيه راوٍ ما يقول كيفما اتفق، ومن الميسور أن يُعرَف أنه حسن سامي يوسف، يبثُّ ما يأتي على خواطرِه من شؤونٍ شخصيةٍ، وأخرى موصولة بالعامّ. وقد يُرى أن العمليْن ينتسبان إلى اليوميات (سيّما الثاني) أكثر من اندراجهما في جنس الرواية. وأياً كان الحال، يشدُّك ما تقرأ، وتنجذبُ فيه إلى ليونة اللغة واتّساع كل ما يفيض في جوانح الكاتب وحشاياه فيُفضي عن قديمِه وجديده، من ذاكرته وراهنه، عن مساءاته ونهاراته، عن غياب فلسطين فيما كتب للتلفزيون، وحضورها القويّ في حياته، عن دمشقيّة مسلسلاته، عن ... إلخ.
ألتقطُ هنا ما مرّ عليه حسن سامي يوسف في "على رصيف العُمر" (ص 18) بشأن مشكلته، "السخيفة الدائمة" (بتعبيرِه حرفيّاً)، وهي أنه "كاتبان في رجلٍ واحد"، كاتب رواية وكاتب سيناريو تلفزيوني. ويسترسل "وظيفتان مختلفتان في أسلوبيْهما، بل شديدتا الاختلاف. تكاد إحداهُما أن تكون على النقيض من الثانية: الخيال الذي بلا ضفافٍ في الكلمة المقروءة مقابل الصورة المؤطّرة بأبعاد الشاشة الثلاثة. وهكذا أصيرُ مُجبَراً على العيش مع الشيء ونقيضِه في آن...". مثيرٌ ما يذهب إليه الكاتب النابه، عندما يرى حالَه هذا في شخصيتي دكتور جايكل ومستر هايد. ثم يسأل: "ولكن، من منهما الطيّب يكون، ومن منهما الشرّير؟"، ثم يجد الجزم بالجواب ليس سهلاً، "رغم تعالي الروائي الذي في داخلي على قرينِه كاتب السيناريو، ورغم سخريته المريرة من كل ما يصنُعه. وربما كان الروائي على حقٍّ في هذا التعالي وتلك السخرية، فالكتابة فعلٌ حرٌّ تماماً، ولا شيء في التلفزيون (فوق مساوئ التأطير) على علاقةٍ بالحرّية، فهناك رقيبٌ يجلس في دماغ كل كاتبٍ منّا، بل عددٌ من الرقباء يساوي عدد محطّات التلفزة التي يطمح المنتج لعرض بضاعته على شاشاتها. وهذا واحدٌ من الأسباب التي تجعل الروائي عندي لا يتعالى وحسب على التلفزيوني، بل يضطهدُه أيضاً". ويرى حسن سامي يوسف الروائي يعيش على حساب التلفزيوني، الذي "يشتغل ويكدَح من أجل تأمين دخلٍ معقولٍ لنفسه ولقرينه الذي يزدريه". ويفيد بأن الكتابة التلفزيونية هي التي تؤمّن له "دخلاً طيّباً إلى حدٍّ جيّد". وأحيلُ هنا إلى ما كتبه في "عتبة الألم" (ص 44)، أنه "قبْل الكارثة التي شملتنا جميعاً في سورية، كنتُ من ذوي الدخل العالي. من تعبي طبعاً، فأنا أتقاضى (والأصح: كنت أتقاضى) الأجر الأعلى في الدرامة السورية على صعيد الكتابة. أي: دخلني ملايين كثيرة من المال".
حال الكاتب الراحل مغايرٌ عن حال الذين أنجزوا سيناريوهاتٍ عن روايات غيرهم، وطبعاً عن الذين اكتفوا بأن يُحسَبوا روائيين، وذلك نجيب محفوظ كتب نحو عشرين سيناريو لأفلام سينمائية، بعد أن شجّعه (وربما درّبه) صديقُه صلاح أبو سيف على هذه الصنعة، وليست منسيةً أفلام "ريا وسكينة" و"الاختيار" و"درب المهابيل" و"شباب امرأة" و"جعلوني مجرماً" (وغيرها)، ولكنه لم يقترب من رواياته التي أنجز غيرُه سيناريوهاتها للسينما. وكانت قناعتُه (الصحيحة) أن الرواية لكاتبها والفيلم لمُخرجه. وثمّة من ذهب إلى أن محفوظ استحقّ جائزة نوبل للآداب عن رواياته، وكان يستحقّ جائزة الأوسكار لأحسن سيناريست.
لم يتحدّث محفوظ عن السيناريست فيه، ما قد يعود إلى أنه حسم صفته روائياً، وربما كان ينظر إلى كتابته سيناريوهاتٍ مجرّد عمل و"أكل عيش". ولم يتحدّث وليد سيف عن الروائي فيه، وهو الذي حوّل سيناريوهاتٍ لأعمال دراميةٍ له إلى رواياتٍ (منها "التغريبة الفلسطينية" و"صقر قريش" وغيرهما)، وأظنُّه لم يتخفّف من صفته سيناريست في سرديّاته هذه التي عكس فيها المألوف، وقد أفاد بأن ما شجّعه على هذا أن أعماله الدرامية كُتبت في الأصل بلغةٍ أدبية. ولم يشكُ أسامة أنور عكاشة من اضطهاد السيناريست فيه، وهو الروائي والقاص.
كان حسن سامي يوسف صريحاً في حكيه عن مشكلته "السخيفة الدائمة"، واضطهاد الروائي لديه كاتب السيناريو فيه.