وما زالت فلسطين تدفع الثمن

16 أكتوبر 2022
+ الخط -

حاورت قناة فرنسية غولشيفته فارحاني، وهي ممثلة إيرانية مشهورة لجأت إلى فرنسا قبل بضع سنوات، بشأن الاحتجاجات الشعبية في إيران. وبالطبع، جرى التركيز على أن ما يحدُث في إيران "ثورة على الحجاب"، أكثر من أي جانب آخر، ومن دون أية شروحات وتحليلات اقتصادية أو ثقافية أو سياسية تُذكر. فقد دأب الإعلام الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً، على اعتبار انتفاضة الشارع الإيراني، القائمة منذ شهر ونيّف، محصورة باحتجاجات نسوية فجّرها مقتل الشابة مهسا أميني في أثناء توقيف شرطة الأخلاق لها لظهور خصلة من شعرها. وإن جرت الإشارة إلى مشاركة الرجال في هذه الاحتجاجات، فسرعان ما يُعتبر انضمامهم وخروج أعداد كبيرة منهم في التظاهرات ما هو إلا دعمٌ ذكوريّ لقضية نسوية.

في أثناء الحوار، استُعرِضَت مواقف مثقفين إيرانيين علّقوا على الحدث خلال الأسابيع الأخيرة. وبالاستناد إلى ما استُعرِض، تبيّن أن غالبيتهم، حتى المحسوبين على النظام أو المنتفعين منه، دانوا بشدة، ومن دون أية محاولة التفاف أو تمييع، ما حصل، معتبرين أنه مؤشّرٌ فاضحٌ على تفاقم قمع الحريات وسيادة التعنّت السياسي والاجتماعي على أصحاب القرار في البلاد. وعند استعراض تنديد المخرج أصغر فرهادي، الذي حصل فيلمه "البطل" على السعفة الذهبية في دورة 2022 من مهرجان كان، علّقت الممثلة مستنكرةً موقفه الذي اعتبرته هلامياً، مقارنةً بمواقفه الصارمة المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي وحقوق الشعب الفلسطيني.

بدا هذا الموقف السلبي تجاه المخرج فرهادي وكأنه هبط هديةً من السماء على المحاوِرين، لأنه يتعلّق سلباً بقضية فلسطين المحتلة. وبالتالي، جرى الربط بين النظام الإيراني والتضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني، بحيث إن فرهادي، بدعمه الواضح والصريح حقوق الفلسطينيين، وإدانته شديدة اللهجة الاعتداءات الإسرائيلية، ما هو بالنتيجة، كما يُستخلَص من الحديث، إلا سعي منه للتقرّب من نظام الملالي "المعادي للسامية" و"الداعم" للقضية الفلسطينية.

المتاجرة الرخيصة بقضايا شعوب العالم الثالث، أدّت إلى تفاقم النفور المجتمعي مما تمثله هذه القضايا

خرج الحوار إذاً عن حدود إيران ووضعها الداخلي، ليتعرّض لما سُمِّي "نفاق مثقفي اليسار" عموماً، والمقرّبين منهم من الأنظمة التسلطية في المنطقة خصوصاً، الذين يغطّون على تهاونهم أمام قضايا الحريات بادّعاء الوصل بالقضية الفلسطينية. ولقد تزامن عرض هذا البرنامج بتداول وسائل التواصل الاجتماعي الفرنسية مشهداً مصوّراً يُظهر خلع بعض المتظاهرين لافتة تحمل اسم شارع فلسطين في طهران ورميها أرضاً. وقد حملت آلاف التعليقات طرفي النقيض من معادلة الجهل السياسي والتخلف التحليلي، فإدانة هذا المشهد استندت إلى الربط بين ما أُجمع على تسميته البحث عن "الانفلات" الأخلاقي بالتخلّص من رموز القضايا "الإسلامية" المُحقة، وأوّلها القضية الفلسطينية. في حين أن الترحيب بالمشهد نفسه استند إلى ما سُمّي تجاوز القضايا التي لا علاقة للإيرانيين بها، والتي حاولت سلطاتهم إشغالهم بها عن الهم الداخلي. حديث مستفزّ لكل من آمن وانتمى وناضل حقاً، وليس نفاقاً، بأسمى القضايا. وهي القضية الفلسطينية. ولكن، هل هذا الاستنتاج خاطئ تماماً ومُغرض، فقط؟

بالعودة الى انهيار جدار برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ومعه انهيار المنظومة التسلطية التي لبست عباءة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، لوحظ عزوف أغلب شعوب البلدان التي عاشت عقوداً تحت جزمة الاستبداد باسم الاشتراكية عن الاهتمام، الذي كان معهوداً بها رسمياً، بقضايا العالم الثالث عموماً، وبالقضية الفلسطينية تحديداً. والأسوأ، جرى التعرّف إلى خطاب سياسي معادٍ ومندّد بهذه القضايا ومتقرّب مما تمثله سلطات الاحتلال الإسرائيلي ثقافياً وسياسياً. ولقد توصلت الدراسات العلمية التي اعتمدت على أبحاثٍ جادّة ومعمّقة إلى أن المتاجرة الرخيصة بقضايا شعوب العالم الثالث، والتي ميّزت سياسات الحكومات السابقة، قد أدّت إلى تفاقم النفور المجتمعي مما تمثله هذه القضايا، وخصوصاً لدى العامّة من الناس، فقد تم تجويعهم وقمعهم وحجز حرياتهم تحت عناوين خالية من الالتزام الحقيقي، مثل "دعم شعوب العالم الثالث"، "مواجهة المؤامرة الإمبريالية"، "التصدّي للهجمة الخارجية، بسبب مواقفنا من القضايا العادلة"، وإلى آخره من هذه التركيبات اللفظية الفارغة مضموناً، إلا من السعي التسلطي للتحكّم بمصائر السكان وحيواتهم.

استثمر نظام طهران القضية الفلسطينية بما لم يفعله سواه، حتى من أعتى الأنظمة العربية تسلّطاً

بالتالي، من المُحبّذ أن تجري المطابقة مع ما يجري في إيران اليوم. لقد استثمر نظام طهران القضية الفلسطينية بما لم يفعله سواه، حتى من أعتى الأنظمة العربية تسلّطاً. ففيلق القدس الذي يجتاح سورية والعراق حين يحلو له، متحاشياً أن يقترب من فلسطين يحمل اسم أشرف البقاع. وزعماء الحكومة الإيرانية لا يتركون فرصة تمرّ، داخلية كانت أو إقليمية أو دولية، من دون أن يتعلقوا بأطراف ثوب فلسطين الطاهر.

على النخب العربية الواعية ألا تكتفي بإدانة الأقوال والأفعال السلبية بحقّ القضية الفلسطينية التي تصدُر عن بعض الإيرانيين اليوم، وربما ستصدُر عن سواهم في المستقبل المنظور، فالتوعية على أن النضال من أجل حرية الإيرانيين، فتية وفتيات، لا تختلف عن نضال الشعوب الأخرى للتحرّر من الاستبداد ومن الاحتلال. قضية الفلسطينيين والإيرانيين واحدة، وهي الحرية والانعتاق من سلطة محتلة ومن سلطة مستبدّة. ليس على فلسطين أن تدفع ثمن الاستخدام المغرض لقضيتها.

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا