سيناريوهات مساء اليوم الفرنسية
سيعرف الفرنسيون مساء اليوم (7/7/2024) إلى أيّ مُنقلب ينقلبون، مع صدور نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الاستثنائية، التي دعا إليها في عجالة الرئيس إيمانويل ماكرون، ردّاً غير متوقّع على خسارة حزبه الانتخابات البرلمانية الأوروبية الشهر المنصرم (يونيو/ حزيران). ستوضح نتائج هذا المساء للفرنسيين، ولغيرهم من المُهتمّين، أجوبةً عن بعض الأسئلة السياسية، وستحتفظ بإجاباتٍ كثيرة عن أسئلة أخرى. وبعد أن سجّلت الجولة الأولى، التي أُجريت في 30 يونيو/ حزيران الماضي، أعلى نسبة للمُقترعين منذ انتخابات 1997، إذ بلغت 66.7%، من المُتوقّع أن تكون نسبة المُقترعين اليوم مطابقة أو ربّما أعلى. فما هي السيناريوهات المُحتملة في المشهد الفرنسي؟
تصدَّر اليمين المُتطرّف المُتمثّل في حزب التجمّع الوطني نتائج الجولة الأولى للمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية. وقد أصابت هذه النتيجة، رغم أنّها كانت مُتوقّعة، جمعاً من الفرنسيين بالصدمة. وجرت الدعوة إلى تحالف الأحزاب اليسارية المنخرطة في الجبهة الشعبية الجديدة مع اليمين الديغولي، أو ما تبقّى منه، إلى جانب أحزاب الوسط، في إطار جبهة جمهورية لوقف امتداد السرطان اليميني المُتطرّف.
في حالة امتناع "التجمّع الوطني" عن تشكيل الحكومة، بعد حصوله على الأغلبية النسبية، يمكن لرئيس الجمهورية أن يكلّف رئيساً ينتمي إلى حزبٍ مُعارِض
ويسعى اليمين المُتطرّف إلى تعزيز نتائجه والحصول على الأغلبية المطلقة في المجلس النيابي ليُصار له تشكيل الحكومة المقبلة، وعدم التعرّض لضرورة عقد تحالفات آنيّة ومصلحية لتمرير ما يريد تمريره من قوانين تنحصر في إطارها العام بإجراءات تعجيزية، في مواضيع الهجرة واللجوء والجنسية، وتحرير الأجهزة الأمنية من القيود الحقوقية، إضافة إلى الابتعاد رويداً رويداً عن السياسة الأوروبية المشتركة، دفاعياً وزراعياً وتجارياً، دونما انسحاب فرنسا الصريح من الاتحاد الأوروبي. كان هذا الانسحاب ("الفريكسيت") من أساسيات فِكْر الجبهة الوطنية الفرنسية، التي تحوّلت اسميّاً إلى التجمّع الوطني الفرنسي. وقد صرّح رئيس "التجمّع الوطني"، جوردان بارديلا، بأنّه لن يقبل تشكيل الحكومة إن حصل حزبه على الأغلبية النسبية فقط. وبتصريحه هذا، هدف بارديلا إلى تحفيز ناخبيه على التحشّد للحصول على الأغلبية المطلقة. كذلك يُعبّر من خلاله عن خشيته من الخوض في رمال حكومة متحرّكة بسبب إمكانات العرقلة المستمرّة التي سيكون متاحاً للمعارضات في المجلس النيابي أن تلجأ اليها. وبالتالي، يمكن له أن يبحث عن حلفاء للحصول على الأغلبية المطلقة، رغم احتمال عدم الاستقرار بسبب وقتية التحالفات السياسية وإمكانية تعرّضها للفسخ في أيّ لحظة.
في حالة امتناع "التجمّع الوطني" عن تشكيل الحكومة، بعد حصوله على الأغلبية النسبية، يمكن لرئيس الجمهورية أن يكلّف رئيساً ينتمي إلى حزبٍ مُعارِض، على أن ينجح هذا المُعارِض بتشكيل حكومة ائتلافية مع مجموع المعارضين من يسارٍ إلى يمينٍ عبوراً بالوسطيين. وهذا احتمالٌ صعب المنال سيصطدم بعداواتٍ تاريخية بين مُمثّلي اليسار أنفسهم، رغم تحالفهم المُؤقّت في الجبهة الشعبية الجديدة، كما بخلافاتٍ عميقة بين مكوّنات اليمين الوسطي أو ما تبقّى منه في المشهد الفرنسي العام، الذي تتشدّد مجموعاته السياسية في ظلّ توتّرات بنيوية. وأخيراً، لا باع للسياسة الفرنسية كثيراً في فنّ التحالف كما نظيرتها الألمانية مثلاً، والتي تتشكّل حكومتها الحالية من تحالف مُعقّد بين اليسار، واليمين، والخضر، والليبراليين.
إعلان حالة الطوارئ والحصر الاستثنائي للسلطة في يد رئيس الجمهورية، هو الحلّ بالكيّ
وفي حال تحققت الأغلبية المطلقة لليمين المُتطرّف، سيكون التعايش مفروضاً بين الرئيس الحالي ماكرون ورئيس الوزراء بارديلا، وهو ما عرفته الجمهورية الفرنسية سابقاً بين فرانسوا ميتران الاشتراكي رئيساً، وجاك شيراك اليميني رئيساً للوزراء (1986 ـ 1988)، كما بين ميتران الاشتراكي رئيساً، وإدوار بالادور اليميني رئيساً للوزراء (1993 ـ 1995)، كما بين شيراك اليميني رئيساً، وليونيل جوسبان الاشتراكي رئيساً للوزراء (1997 ـ 2002). في المقابل، سيختلف هذا التعايش المُستجِد عمّا سبقه من تجارب، لأسباب عدّة، أهمّها وجود حزب يميني مُتطرّف أحدَ أطرافه. فاليمين التقليدي الفرنسي، والذي يُطلَق عليه الديغولي، نسبة للرئيس الراحل شارل ديغول، ذو تقاليد جمهورية تتبنّى، كما اليسار الاشتراكي، الانتماء الفرنسي لمنظومة دولية واضحة المعالم والتحالفات، بعيداً عن أيديولوجيا كراهية الأجانب والمسلمين منهم كما المُتطرّفين. كما أن فقدان ماكرون أيّ سندٍ فكري وقاعدة إيديولوجية سيجعله في موقف ضعفٍ أمام بارديلا. وأخيراً، وهذا حكم قيمة واضح؛ كان السابقون رجال دولة والحاليون رجال سلطة.
في الجمهورية الخامسة التي أعلنها ديغول سنة 1958، تبقى السياستان الخارجية والدفاعية من صلاحيات رئيس الجمهورية. وتلعب شخصية الرئيس دوراً أساسياً في تحديد مدى تمكّنه من لعب هذا الدور. كما يمكن لرئيس الجمهورية أن يُعرقل عمل الحكومة برفضه توقيع القوانين، ما يمكنّه من أن يدفع رئيس الوزراء إلى الاعتماد على القرارات الوزارية. وإن تمادى رئيس الوزراء في سَنّ القرارات المرفوضة من رئيس الجمهورية، خصوصاً منها التي تُغيّر من موقع فرنسا الدولي تجاه المواثيق الأممية، يمكن للمجلس الدستوري كما مجلس الدولة أن يعيقا تنفيذ مثل هذه القرارات. وبالتالي، يعمل القضاء المستقلّ على الحدّ من انحرافات المُتطرّفين الجدد.
ويبقى إعلان حالة الطوارئ والحصر الاستثنائي للسلطة في يد رئيس الجمهورية، بناءً على البند رقم 16 من الدستور، هو الحلّ بالكيّ، الذي يمكن أن يلجأ إليه ماكرون في أسوأ السيناريوهات.