استيراد الصراع

15 سبتمبر 2024

شاب يرفع علم فلسطين على تمثال انتصار الجمهورية في ساحة الأمة في باريس (8/6/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

أصدقاء إسرائيل وحلفاؤها المنتشرون في مختلف مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في دول العالم الغربي الحرّ، والمسيطرون عليها نسبياً، من السهل والمفيد لديهم توجيه الاتهامات إلى من يتضامن مع القضية الفلسطينية، ويقف إلى جانب الإنسان القابع تحت الاحتلال والحصار والقصف الهمجي والمنهجي اليومي في غزّة. ويكون الاتهام المحوري المستعمل بكثرة هو الإشارة إلى أن من يعبّر عن تضامنه مع الإنسان الفلسطيني يرتكب عملية "استيراد" صراع خارجي، من المفترض، حسب رأيهم، ألا يحتلّ مكاناً، مهما بلغ حجمه، في المشهد الوطني. وبالتالي، هم بذلك يعملون على تأجيج أتون صراعات داخلية في بلدانهم مرتبطة بأحداثٍ تجري على مسافة آلاف الأميال. ويجرى التركيز على مفهوم "استيراد الصراع" للإشارة بإصبع السلبية إلى فئة محدّدة من القاطنين في هذه البلاد، وهي في نظرها من المهاجرين، وخصوصاً المسلمين منهم. وعلى الرغم من أنه ثبُتَ أن المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون قد أثارت وما زالت تثير ردود فعل مختلف الفئات الاجتماعية والمكوّنات الإثنية والدينية في مختلف الدول، إلا أن استمرار التركيز على دور العنصر الأجنبي في عملية الاستيراد هذه يساعد في دمج مسألتين معاً: الصراعات الخارجية وأثرها في إضعاف عملية الاندماج الداخلي للفئات المهاجرة. فالتظاهرات المندّدة بالحرب الإسرائيلية ناجمة عن استيراد الصراع. وعشرات النداءات والبيانات التي تطالب بوقف إطلاق النار الدائم في غزّة هي من نتائج هذا الاستيراد. أما رفع الأعلام الإسرائيلية على ساريات المقارّ الحكومية والبلديات في عدة عواصم غربية فلا يُعتبر استيراداً، بل مجرّد تعبير عن تضامن "أخلاقي" مع ضحايا "الإرهاب" كما يدّعي أصحابه.

تغيب عن أصحاب هذه النظرية عن استيراد الصراع ومروّجيها مسألة على قدر كبير من الأهمية، والتي يمكن تلخيصها في عبارة مقابلة لمقولة استيراد الصراع، وذلك بالحديث عن "الانتماء" إلى قضية أخلاقية، فهذا الانتماء يشير إلى العملية التي يقوم من خلالها فرد أو مجموعة بالارتباط الوثيق مع قضية أو حركة أو هدف معين، إلى درجة أن هذه القضية تصبح جزءاً من هويتهم، ويمكن أن يظهر بطرق متنوّعة، سواء من خلال الدعم الفعّال لنضال اجتماعي، أو سياسي، أو بيئي، أو إنساني، أو من خلال تبنّي قيم ومعتقدات وسلوكيات تتماشى مع تلك القضية. ويستند الانتماء إلى قضيةٍ إلى عدة عناصر، أهمّها التواصل العاطفي، حيث يشعر الأفراد باتصال عاطفي قوي مع القضية، سواء من خلال التعاطف أو الغضب أو الأمل. يدفعهم هذا الاتصال إلى العمل والمشاركة بفعالية لترويجها أو للدفاع عنها والتعبير عن التضامن مع أصحابها الأصليين. يستند هذا التواصل العاطفي أساساً إلى عملية المشاركة بالقيم، فالفرد أو الجماعة، يتبنّيان القيم الأساسية التي تحملها وتدافع عنها القضية. ويعزّز هذا التبني الشعور بالانتماء إلى هذه القضية، بحيث تصبح هذه القيم بمثابة بوصلة أخلاقية توجّه سلوكه.

الصامتون عن انتهاك الحقوق واغتصاب العدالة وقتل الإنسان محرّضو الصراعات الداخلية المقبلة

هناك أيضاً بعدٌ أعمق للإشارة إلى الشعور بالانتماء الى قضية، فعندما ينتمي الإنسان إلى قضية، غالباً ما يشعر بأنه لم يعد منعزلاً عن محيطه أو معزولاً من قبله، فلقد صار جزءاً من مجتمع أوسع يتشارك بأهداف مشتركة، وشعوراً بالتضامن مع الآخرين الذين يناضلون من أجل الهدف نفسه أو من أجل أهداف مختلفة، ولكنها تلتقي، في معاييرها الإنسانية والأخلاقية، مع هذا الهدف. يعزّز هذا الانتماء من الالتزام الشخصي، بحيث يؤدّي إلى أن يكرّس الفرد الوقت والطاقة والإمكانات المادية لنصرة هذه القضية. ويتم ذلك من خلال النشاط النضالي أو جمع التبرّعات للقضية أو التصريح علناً عن رأيه. وبالنسبة لبعضهم، تصبح القضية التي يشعرون بالانتماء إليها جزءاً من هويتهم، ما يمكن له أن يؤثّر على أسلوب حياتهم ونشاطاتهم المهنية، كما على علاقاتهم الاجتماعية سلباً أو إيجاباً. وأخيراً، يمكن للانتماء إلى قضية أن يحجب عن الفرد المنتمي آراء مختلفة، كما قد يؤدّي إلى الانهيار النفسي والإنهاك العاطفي لدى من يستثمر بقوة في القضية من دون أن يحظى برؤية أو تلمّس نتائج لهذا الانتماء.

لم يندفع طلاب الجامعات الأميركية والأوروبية الذين احتشدوا للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وتنديدهم بوحشية الاحتلال الإسرائيلي في هذا الاتجاه لمجرّد شعورهم بأن هناك عدالة مفقودة وحقوقاً مغتصبة فحسب، بل لأنهم شعروا بالانتماء الرمزي لهذه القضية، من خلال معيشتهم اليومية ومن خلال تعامل المؤسسة السياسية معهم، ومع مطالبهم البعيدة كل البعد عن أرض فلسطين. وهم، كما أصحاب السترات الصفراء في فرنسا الذين خرجوا عام 2018 للتعبير عن احتجاجهم على إجراءات الحكومة التي خفّضت من قوتهم الشرائية وظلمتهم في حقوقهم، يروْن في قضية شعب محتلة أراضيه منذ عقود ومدمّرة مدنه وقراه، والذي يتعرّض للقتل اليومي، قضيتهم، على الرغم من أنهم كانوا لفترة قريبة جاهلين أو متجاهلين ما يحدث خلف حدودهم القُطرية الضيقة.

المتضامنون مع الحق والعدالة والإنسانية لا يستوردون صراعات خارجية قائمة. أما الصامتون عن انتهاك الحقوق واغتصاب العدالة وقتل الإنسان فهم محرّضو الصراعات الداخلية المقبلة.