هل نجح رهان ماكرون؟
تقدّمت الجبهة الشعبية الجديدة، اليسارية، في النتائج النهائية للانتخابات التشريعية الفرنسية في السابع من يوليو/ تموز الحالي. وجاء في المرتبة الثانية تجمّع "معاً من أجل الجمهورية" الذي يدور في فلك حزب النهضة الرئاسي. أما حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، والذي توقّعت استطلاعات الرأي أن يكون الفائز الأول، فقد جاء في المرتبة الثالثة. مع هذه النتائج، تنفّس بعض الفرنسيين المؤمنين بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، والتي قامت عليها الثورة الفرنسية سنة 1789، الصعداء، بعد أن عاشوا رعباً حقيقياً من احتمال وصول اليمين العنصري إلى الحكم. وعلى الرغم من أن هذا التقدّم اليساري لم يسجّل إلا انتصاراً رمزياً أمام صعود اليمين المتطرّف المتنامي، والذي ارتفع عدد ممثليه في الجمعية الوطنية (البرلمان) من 89 نائباً سنة 2022 إلى 125 نائباً في الانتخابات أخيراً، إلا أنه سمح بإبعاد شبح سيطرة التطرّف اليميني على فرنسا في الفترة القصيرة المقبلة من مخيال بعضهم. نجح إذاً تجمّع الأحزاب اليسارية، الوسطي منها وصولاً إلى المتشدّد، بالحصول على أعلى عددٍ من المقاعد البرلمانية والذي بلغ 193 مقعداً، ولكن من دون الحصول على الغالبية المطلقة التي تمكّنه من ترؤس الحكومة المقبلة، والتي تقضي بأن يشغل الحزب المكلف 289 مقعداً من مجمل مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمانية) والبالغة 577 مقعداً.
إثر هذه النتائج المخيّبة له، آثر الرئيس ماكرون أن يرفض استقالة الحكومة التي يترأسها منذ سبعة أشهر، غابريال أتال، طالباً منه الاستمرار في منصبه حتى نهاية الألعاب الأولمبية التي تستضيفها فرنسا هذا الصيف. وبدأت المراهنات على من سيقع عليه الاختيار لتشكيل الحكومة المتوقعة في سبتمبر/ أيلول المقبل، والذي يجب أن يكون أو تكون، كما ينصّ عليه العرف، من الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، وبالتالي، من "الجبهة الشعبية الجديدة". وانطلقت سيناريوهات تشكيل الحكومة احتراماً لنتائج الاقتراع أو من خلال توافقاتٍ بين كتل برلمانية تقف مصلحياً إلى جانب الرئيس، بعيداً عن اليمين المتطرّف واليسار المتشدّد. وبدأ اليساريون من اشتراكيين وشيوعيين وخضر وأعضاء في حزب فرنسا الأبية مفاوضات ماراثونية للتوصل إلى مرشّح يتقدّمون به الى قصر الاليزيه، ليكون هو الخيار المرّ للرئيس ماكرون، ويكلفه بتشكيل الحكومة، ليتعايش معها فترة مؤقتة في أقل تقدير. طالت مفاوضات اليسار وبدأت القواعد تتذمّر، خصوصاً مع تسرّب الأسباب الموجبة لهذا التأخير، والتي دارت في أغلبها في محيط الرغبات الذاتية للقادة، وترجيح مرشّح مرتبط بالحزب الأكبر في الجبهة، وهو "فرنسا الأبية". ولقد ظهر بوضوح أن الشخصية الفجّة لرئيس هذا الحزب، جان لوك ميلانشون، حجر عثرة في وجه استمرار أي تحالف يساري. ومع استمرار التفاوض والانتظار، تضاءلت حظوظ اليسار في أن يفرض مرشحاً أو مرشّحته لترؤس الحكومة.
ظهر بوضوح أن الشخصية الفجّة لميلانشون حجر عثرة في وجه استمرار أي تحالف يساري
بحنكته المعروفة، راقب ماكرون مسار محادثات اليسار مرسلاً، بعيداً عن الإعلام، تلميحات إيجابية الى أطرافه كافة، عدا "فرنسا الأبية". وبالتالي، انصبّ اهتمامه على شقّ صفوف اليسار مستقطباً التقليديين والمعتدلين منه على حساب التيار الأكبر، والذي يُعتبر متشدّداً. وعلى الأرجح، أشاحت الطموحات الذاتية بنظر قادة اليسار عما يُحضّر لهم من مصائد، وبدأت التصريحات العنيفة تصدُر من طرفٍ بحقّ الطرف الآخر دواليك. ووضح للجميع أن بعض قيادة حزب فرنسا الأبية غير مهتمة بالمرحلة الجارية المتعلقة بتشكيل الحكومة، خصوصاً أن عيون مؤسّسها تُبحر باتجاه الاستحقاق الرئاسي سنة 2027. وتقوم تقديرات هؤلاء القادة على أن من الأفضل التضحية برئاسة الحكومة في المدّة الباقية لانتخابات الرئاسة، على أن تخوض غمارها وتخسر من شعبيّتها، كأي تشكيلة سياسية تشكّل حكومة لفترة قصيرة لا يمكن لها من خلالها إجراء تغييرات بنيوية في الأداء الاقتصادي العام. يُضاف إلى هذا كله أن اليسار التقليدي، ممثلاً بالحزب الاشتراكي، قابل للتقرّب من حزب الرئاسة لوجود كوادر منه سابقين في هذا الحزب.
اجتمع النواب، في 18 يوليو/ تموز الجاري، لانتخاب رئيس/ رئيسة الجمعية الوطنية. وجرت الانتخابات على ثلاث مراحل: تقدم مرشّح جبهة اليسار الجولتين الأوليين، لتفوز مرشحة الحزب الرئاسي الخاسر بالانتخابات التشريعية، وهي الرئيسة السابقة للبرلمان، في الجولة الثالثة والحاسمة. غاب عن الجميع تقريباً أن ماكرون استدعى، عشية هذا الاقتراع، رئيس الوزراء ليعود عن رفض استقالته، ويطلب منه تسيير الأعمال لحكومة مستقيلة، تضم 17 وزيراً جرى انتخابهم نواباً. هذه أصوات معترض عليها ساهمت بفوز الرئيسة، كما حصلت على تأييد اليمين المعتدل، وحازت على صوتين من اليمين المتطرّف لتحصد 220 صوتاً مقابل 207 لمرشّح اليسار. وفي خضمّ المماحكات لدى أطراف اليسار، غاب عنهم تفسير قبول الاستقالة المستعجل عشيّة اختيار رئيس الجمعية. ولقد سجّلت هذه الخسارة القوية نقطة البداية لتراجع أوسع لليسار، بحيث عكست إمكانية إيمانويل ماكرون لجذب اليمين بأنواعه، على ألا يقدّم أي تنازل لليسار في تسمية رئيس الوزراء. ... وما زالت أحزاب اليسار تتفاوض وتتصارع، ولكن على ماذا؟