وصية البابا الأخيرة ووصاياه القديمة
في أزمنة الاستقرار، يكثر النقدُ ودعواتُ التغيير. ما إن تهدّد الثوابتَ عاصفةٌ عاتية، يتهاوى قناعُ النقدية عن وجوه جلّ مرتديه. يقف نقّاد الأمس صفوفاً أو فرادى في وجه العاصفة اليوم، كما لو كانوا الثوابتَ نفسَها التي رفضوها. في لحظة التغيير تُختَبر مصداقيةُ دعاتِه.
عاصر أكثرُنا تجربةً عاصفةً وقف في وجهها من كانوا يتضرعون لأجلها. لا أفترض، حصراً، أن ما كان نقداً كان كذباً، لكنه بالتأكيد لم يخضع لقياسٍ وافٍ يبرهن مصداقيتَه. في بريطانيا زمنَ الحربِ العالمية الأولى، وقف مفكّرون ومشتغلون في الفلسفةِ صفّاً مع قرار خوض الحرب، رغم أنهم قبل ذلك عارضوا الحُكمَ، وكتَبَوا لتقويض أخطاء السلطة أو نقدِها. في المقابل، انبرى أحدُ أهم فلاسفة القرن العشرين، رافضاً الحرب، مع أن صوتَه عُدّ نشازاً مضرّاً بالمصلحة القومية. فعلى خلاف الحرب العالمية الثانية، كانت لندن سبباً رئيساً في تأجيج صراعٍ لم يفرض عليها. اختارتْه لأسبابٍ تتعلق بتوسيع نفوذها أوروبياً وعالمياً. أدرك بِرتراند راسل الأسباب. لم يكلّ عن مواجهة قرار الحرب إلى درجة أنه دعم "الامتناع الضميري عن الخدمة العسكرية". سُجن قبيلَ نهايةِ النزاع الدولي بتهمة "جرائمه المستمرّة" ضد قانون الدفاع عن المملكة. الإدانةُ الحقيقية هي أنه لم يوالِ السلطة بلا شروط في زمن العاصفة.
الولاء المطلق للسلطة، سياسيةً كانت أم دينية أم اقتصادية أم ثقافية…، فعل أيديولوجي. هو انسجامٌ في أزمنة الحرب والسلم. الموالي لا يسمح لنفسه أن ينقد مَن أو ما يوالي، لأنه لا يرى العيوبَ أو لا يعتقد بكفايتِها لتغيير موقفه. لكن هناك نمطاً من الموالين يمتلك حسّاً نقدياً ليس لوجود السلطة، ولا لمكانتها وأسباب استمرارها، بل لما تنطوي عليه من عيوب، بحثاً عن الكمال. هذا انتماءُ الأذكياء لأيديولوجياتٍ يؤمنون بها ولا يريدون خسارتَها. هؤلاء، عادة، يتراجعون عن نقْدهم حين يشعرون بخطر حقيقي.
لم يدافع البابا بنديكت السادس عشر عن الإيمان فحسب، بل عملَ على تدعيم المؤسسة الراعية العقيدة
كان بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر مثالاً مهماً على النوع الثاني. بوفاته أخيراً، طُويتْ صفحةُ شخصيةٍ مثيرةٍ الجدل منذ بدء طريقها حتى نهايةِ مشوارها كأول بابا يستقيل منذ نهاية عصر ثنائية البابوات (الانشقاق الغربي) قبل ستة قرون. قد يكون هو الجدلَ الأكبر في تاريخ الفاتيكان المعاصر، إذا ما اعتبرناه أكثرَ لغطاً من عهد بيوس الثاني عشر الذي عاصر الفاشية والنازية ونهايتَهما، فضلاً عن تنامي الشيوعيةِ ومعركةِ القرارات المتطرّفة المتبادلة بينه وبينها. على أي حال، كان بنديكت السادس عشر صارخاً في آرائه مقابلَ العلم والعلمانية.
تحدّث، في وصيته، عن نسبية العلم مقابل ثبات الإيمان: "لاحظتُ منذ زمن بعيد التغييراتِ في العلوم الطبيعية ورأيتُ كيف اختفتْ اليقينياتُ الواضحة ضد الإيمان، وأثبتتْ أنها ليست علماً بل تفسيراتٌ فلسفية تنتمي ظاهرياً إلى العلم". لم يختلف موقفُه عن الذي أعلنه في بداية منصبه. في كلمته أمام "المجمع المغلق" قبيل انتخابه البابا رقم 265، افتتح مسارَه بخطاب صدامي: "كان قارِبُ الفكرِ الصغيرُ لعديد من المسيحيين موضعَ استغراب بسبب هذه الموجات التي تقاذفتْه من جهة إلى أخرى: من الماركسية إلى الليبرالية، وحتى التحرّرِ؛ من الراديكالية الجماعية إلى الفردية؛ من الإلحاد إلى التصوف الديني المبهم؛ من اللا أدرية إلى التوفيق بين المعتقدات… كلّ يوم تُنشأ طوائفُ جديدة ويتحقّق الخداعُ البشري. بالمكر تجري محاولةُ جر الناس إلى الخطأ. وغالباً ما يطلق على الإيمان الواضح اليومَ الأصوليةَ".
لم يترك جوزيف راتْزنغر اسمَه الأصلي ويَختَر اسمَ "بنيدكت - بنيدكتوس" كي يكون كسلفه يوحنا بولس الثاني، هادئاً في التعامل مع تنامي اللادينية في مواجهة الاعتقاد الكاثوليكي وغيرِه من أشكال العقائد الإبراهيمية، بتعبير أدق في مواجهة مؤسّسات ذلك الاعتقاد. هو لم يدافع عن الإيمان فحسب، بل عملَ على تدعيم المؤسسة الراعية العقيدة. المفارقةُ تبرز هنا، أنه نفسُه، في خمسينيات القرن الماضي وستينياتِه، قارَع المؤسسة، نقَدَها ووظفَ تميزَه الفكريَ في الدعوة إلى إحداث تغيير ثوري فيها.
وقّع البابا بنديكت السادس عشر، في 1966، إلى جانب مئات من الشخصيات، بياناً طالب بحق الكاثوليك في التشكيك بقرارات الكنيسة
وقّع، في عام 1966، بجانب مئات من الشخصيات، بياناً رفض حقَّ الفاتيكان في الهيمنة وطالَب بحق الكاثوليك في التشكيك بقرارات الكنيسة. ومثّل الموقف تدرّجاً في رؤية راتزنغر تجاه الكنيسة. رؤية لا تختلف جُملةً مع تصورات سبقتها بقرون قادها المفكر الديني الألماني مارتن لوثر، مؤسسُ البروتستانتية في القرن السادس عشر. كان أحدُ مظاهرها دعمَه مقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني (المجمع المسكوني الحادي والعشرين)، ومنها حقُ الإنسان في حريته الدينية والإقرارُ بأن الأديانَ غير المسيحية والمذاهبَ غير الكاثوليكية تُعلّم الحقائقَ الأساسية.
ثم قدَمتْ لحظةُ خضوعِ النقد للاختبار التي اجتازها برتراند راسل بنجاح، لكن رجل الدين الألماني لم يجتزها. عام 1968 اندلعت احتجاجاتٌ وانتشرت اضطراباتٌ في بلدان غربية عديدة. كانت قضية الكنيسة ومواجهتُها من بين المسائل المستهدفة في الأحداث. انتهت نزعة النقد لدى رجل الدين الكاثوليكي، واستبدلَها بنزعة دفاعية صريحة عن مؤسّسته الدينية. تحولُه من ناقد إلى مدافع كان سلّم ارتقائه داخل الكنيسة المركزية التي طالب يوما بإعادة تنظيم هيكلها أو تهشيمِه. وجاءت خاتمةُ وصيته الأخيرة متضمنةً ما يمكن فهمُه محاولةَ تفسيرٍ للعلاقة بين الموقفين، السابق واللاحق، رفْضِ هيمنة الفاتيكان المطلقة ثم الدفاعِ عن هيمنتها الشاملة "المسيح حقاً الطريقُ والحق والحياة، والكنيسةُ بكل عيوبها هي جسدُه حقاً". في مثل هذه الحالات، لا أظن أن من الدقّة التعامل مع الأمور والتحوّلات الجذرية بفعل طرق متغيراتٍ موضوعيةٍ وتحدّياتٍ محيطة على أنها كذِبٌ أو صدق. هناك ما هو أكثر تعقيداً. يمكن الاتفاقُ، إلى حد كبير، مع وصف المصداقية وعدمها، وهو مصطلحٌ يختلف عن الصدق، بقدر كونه نابعاً من الصراع الذي يعيشه شخصٌ ذو أيديولوجية موحّدة، وفي الوقت ذاته، ذو حريةِ تفكيرٍ موازية لعبودية العقيدة.
في حالات عديدة من الإصلاحات الدينية المعتمدة على المعاصَرة وحرّكتها أسئلةٌ منطقية حديثة، تُلاحظ انتكاساتٍ حادّة انتقلت إلى الضد
لا يقتصر الوضع على الدين، إنما شاملٌ كلَ عقيدةٍ شمولية تؤسِس تراكمياً نوعاً من الهوية العاطفية. هذه الهوية تَكتسب تدريجياً استقلالاً، ثم تصبح جذراً مؤثراً في إيجاد أفكارها الخاصة وتوجيهها. وعند أي استفزاز خارجي، مثل 1968 في مثال البابا أو الحرب العالمية الأولى في مثال راسل، تبلوَرَ اختبارُ مدى نجاحِ النقد في اقتحام تلك الهوية وكبْحِ جماحها أو استئصالها. أيْ أن مراجعات المنظومات العقائدية ستكون مربِكة ومرتبكة وناقصة، حال لا تتزامنُ عمليةُ نقْدِ الأفكار وظواهرِها ومعطياتها ومجتمعاتها وسلطاتها… مع مراجعةِ الهوية العاطفية التي أوجدتها الأفكار مسبقاً، وأصبحت مؤثّرةِ في تحريك العلاقة معها لاحقاً. إنْ لم يلحَظ ما أوجدته الأيديولوجيا عاطفياً وينقد مباشرة، يبقى طليقاً وقادراً على ابتلاع فكر حامله حين يوقظه خطرٌ ما. لذا من الصعب الثقة بأن النقد يصمُد عند الاختبارات، إلا إذا حمل معه علاماتٍ تشير إلى أنه موجّهٌ إلى الهويةِ العاطفية الكامنة مثلَ ثقب أسود. بالتالي، بدَلَ وصفِ الناقد المنقلب على نقديته بالكاذب، يمكن وصفُه بالعاجزِ عن التغيير، كونه مسَّ جانباً معيناً، الجانبَ الفكري الصريح، المعطياتِ المنطقية، ولم يقترب من العش الضامن (يشبه إلى حد ما مصطلح الدولة العميقة في مصطلحات السياسة) وقتما تحين مواجهةُ خطر حقيقي. هنا يعود الابنُ "الضالّ" المفكرُ خارج السرب. لهذا، من السهولة، في الهزّات الموضوعية، أن ينتكس النقد، كونه لامس الفكرةَ، لا ما ولِد عنها من هوية عاطفية ملغمة.
في حالات عديدة من الإصلاحات الدينية المعتمدة على المعاصَرة وحرّكتها أسئلةٌ منطقية حديثة، تُلاحظ انتكاساتٍ حادة انتقلت إلى الضد. كان البابا مثالاً واضحاً لما تضمنته رمزيتُه المركزية للعالم الكاثوليكي الواسع راهناً وسابقاً، إلا أنه ليس الوحيد، بل له أمثلة عديدة. محمد رشيد رضا، الفقيه الديني اللبناني ــ المصري، أنموذج. بدأ مُجدّداً، ثم أصبح سلفياً بعد استفزاز الهوية العاطفية خلال المرحلة التمهيدية للحرب العالمية الأولى، وما أسفر عنها من تهاوٍ للخلافة الإسلامية. هناك أيضاً المنظّر الديني المصري، سيد قطب، الذي شعر باختبار استفزاز الهوية وقتما درس في الولايات المتحدة وعاد أصولياً متطرّفاً بعد أن كان أكثر معاصرة. المنظّر الديني العراقي محمد باقر الصدر يوم انتقل من عقلانيته إلى جنون الولاء الأيديولوجي أمام اختبار الثورة الإيرانية، مثالٌ آخر. هذه النماذج، وإنْ كانت دينية، اندرجت في ظاهرةٍ أوسع لكل عقيدة جمعية شاملة مؤسِسة للهوية العاطفية الكامنة.
الفرق الحضاري، بين البيئة الغربية العملية المحيطة بشخصٍ مثل البابا وشخصيات دينية وغير دينية من بيئات أخرى محاطة بزخم من شعارات مجرّدة من خطواتٍ عملية، جعل البابا، مع احتفاظه الصريح بقناعاته الشخصية، ينسحب من المشهد ويستقيل، إيماناً منه بضرورة نجاة الكنيسة حين تعرّضت بسبب آرائه إلى هجمةٍ شرسةٍ مهدِّدة، رغم أنه برَّر ذلك بالشيخوخة. مهّد بذلك الطريقَ أمام خليفته فرنسيس، المتعارضِ معه في المضمون، والمتفقِ في حماية الكنيسة. في حين أن المنتمين إلى البيئات الأخرى يسرعون خُطاهم، حتى لو أدّى إلى الإضرار بمنظوماتٍ ينتمون إليها، وبرّروا وجودَهم بالدفاع عنها.