واشنطن – أنقرة .. الضرب تحت الحزام
لا يمثل الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن شراء الأخيرة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية، إس 400، سوى قمة جبل الجليد؛ فجوهر الخلاف لا يتعلق بالصفقة بحد ذاتها، بل في توجهات استقلالية تركية أخذت في التبلور في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ورئيسه، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. بدأ ظهور هذه التوجهات، مع تصويت البرلمان التركي عام 2003 بعدم السماح للقوات الأميركية بالعبور من الأراضي التركية لمهاجمة العراق، وتعزّزت برفض القيادة التركية التزام العقوبات الأميركية على إيران، ومواصلة التبادل التجاري معها، بما في ذلك استيراد النفط والغاز منها، والتعاقد مع روسيا على إنشاء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء، ومد أنبوب لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ميناء جيهان، ودعم السلطة الوطنية الفلسطينية والتواصل مع حركة حماس، وانتقاد الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والموقف الغربي الداعم لها، وصولاً إلى شراء الصواريخ المذكورة.
جاء التوتر الحالي بين الولايات المتحدة وتركيا في لحظةٍ دقيقةٍ وحساسّة، عنوانها تصاعد حدّة الخلاف بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، في ضوء تبنّي الولايات المتحدة استراتيجية "التنافس بين القوى العظمى"، ما جعلها تتبنّى سياسة حادّة قائمة على رفض المواقف الضعيفة أو المتردّدة من حلفائها، فإما مع أو ضد ولا خيار ثالث. وهذا عرّض تركيا لضغوط قوية، كي تعيد النظر في سياستها الاستقلالية، وتنضبط في الصف الغربي، والذهاب في الضغوط بعيداً إلى حد العمل على التخلص من الرئيس التركي بانقلاب، أو بصناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقد زاد الطين بلة أن أنقرة عزّزت توجهاتها الاستقلالية عن الغرب عامة، والولايات المتحدة خصوصاً، بتوسيع تحرّكاتها الانفرادية في ضوء تنامي قدراتها الإنتاجية المدنية الصاعدة والعسكرية الواعدة وناتج قومي فاق الثمانمئة مليار دولار، ونجاح خططها في التنافس على الأسواق والاستثمارات والتمدّد في ثلاث قارات، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وإقامة قاعدة عسكرية في قطر وأخرى في الصومال، وتحقيق مكاسب واضحة في ملفات إقليمية ساخنة عبر الدعم العسكري المباشر، ليبيا وأذربيجان، عزّزت سمعة صناعتها العسكرية، وبيع طائرات مسيّرة من نوع بيرقدار لدول أوروبية، أوكرانيا وبولندا، وعربية، المغرب، والتباحث مع السعودية لتزويدها بها، ومزاحمة فرنسا في دول الساحل الأفريقي، عبر مغازلة المجتمعات المسلمة ببناء المساجد والمدارس والمساعدات السخية والاستثمارات الكبيرة، ومنافسة روسيا والصين في شرق أفريقيا وشمالها. وهذا كله قوّى موقف تركيا في المعادلة الإقليمية والدولية، وشجّعها على اتخاذ مزيد من الخطوات الاستقلالية، بما في ذلك شراء منظومة الصواريخ الروسية، والحديث عن نيّتها شراء طائرات روسية من الجيل الخامس، سوخوي57، إن لم تحصل على طائرات إف 35 الأميركية، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة أكثر وأكثر.
تكمن نقطة ضعف تركيا في وقوعها في مركز صدع حادّ، وغير قابل للتجسير بين التحالف الغربي وروسيا والصين
قامت تركيا بمغامرات جيوسياسية في سورية وليبيا وقطر والسودان والسنغال وتشاد والنيجر ونيجيريا وأوكرانيا وبولندا وشرق المتوسط، وأطلقت خطة الوطن الأزرق، ووسّعت حدود مياهها الاقتصادية، بالاتفاق مع ليبيا على ترسيم الحدود البحرية، قطعت به الطريق على مشروع مد أنبوب غاز من الآبار الإسرائيلية والقبرصية باتجاه أوروبا، والبدء بالتنقيب عن النفط والغاز شرقي المتوسط وفي البحر الأسود، حيث اكتشفت آبار غاز كبيرة، وانفتحت على الصين، وانخرطت في مناورةٍ حسّاسة وخطيرة بالضغط على الولايات المتحدة، من خلال التقرّب من روسيا والتعاون معها في أكثر من مجال وساحة، وبالضغط على روسيا عبر بيع أوكرانيا 24 طائرة مسيَّرة من طراز "بيرقدار تي بي 2"، مع إنشاء مصنع لإنتاجها فيها وبيعها سفينتين حربيتين من طراز "كورفيت أدا" مضادّة للغواصات ومهاجمة ضم جزيرة القرم، وتقديم دعم سياسي ومالي لتتار الجزيرة، كذلك انخرطت في صراع سياسي وجيوسياسي مع مصر والسعودية والإمارات وإيران وروسيا وفرنسا واليونان وقبرص وإسرائيل، وأعلنت تحوّلها إلى قوة إقليمية عظمى، يجب احترام مصالحها في الإقليم والعالم. لكن توسيع دائرة الملفات الساخنة التي انخرطت فيها، وارتفاع عدد الدول المعترضة حدّ من قدرتها على تحقيق نصر نهائي، وقادها إلى اكتشاف عدم توافر قدراتٍ كافيةٍ لمواجهة كل الخصوم الذين وقفوا ضد تحرّكاتها وانخراطها في ملفاتٍ بعيدة عن حدودها، والتجاوز على حقوق دول مجاورة: قبرص واليونان، فعادت خطواتٍ إلى الوراء بحركات التفافية، ودخلت في مسار جديد، سمته الرئيسة الانفتاح وتصفير المشكلات مع دول المنطقة.
سعت الولايات المتحدة إلى ليّ ذراع تركيا من طريق فرض عقوباتٍ عليها بذريعة مخالفتها قوانين أميركية، تحرّم شراء أسلحة من روسيا بشرائها صفقة الصواريخ الروسية
تكمن نقطة ضعف تركيا في وقوعها في مركز صدع حادّ، وغير قابل للتجسير بين التحالف الغربي وروسيا والصين، ما جعلها ساحة هامة لكلا المعسكرين وضحية محتملة لهما، فهي غير قادرة على البقاء في الصف الغربي لاعتبارات ذاتية: النزعة القومية التي نمت وتصاعدت على خلفية رد الفعل على المعاملة غير المنصفة التي عاملتها بها دول التحالف الغربي؛ وشعورها بالتمييز ضدها من دول هذا التحالف، تعقيد عملية دخولها في الاتحاد الأوروبي، وبلوغها نهاية سلبية بعد عقود من المفاوضات المضنية، واجهتها بعض دول أوروبا بالإعلان أن الاتحاد الأوروبي تحالف مسيحي، لدفعها إلى الكفّ عن السعي إلى الدخول فيه، لكونها دولة مسلمة، تركها وحيدةً في مواجهة روسيا بعد إسقاطها الطائرة الروسية في سورية، المماطلة في بيعها أنظمة دفاع صاروخي أميركية، وقوف دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى جانب اليونان، في خلافها معها على حدود المياه الاقتصادية، موقف أميركي ملتبس من الانقلاب الفاشل عام 2016، عدم الاهتمام بما تعتبره أمنها القومي عبر تزويد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بأسلحة متطوّرة، وفرض عقوبات أميركية عليها على خلفية هجومها على مواقع "قسد" شرق الفرات، تسليط الأضواء على سياسات أردوغان الداخلية التي تبتعد عن المعايير الديمقراطية والحقوقية، يصفه بعض قادة أوروبا بالديكتاتور، إعلان المرشّح الديمقراطي، جوزيف بايدن، خلال حملته الانتخابية، رغبته في إسقاط أردوغان عبر الانقلاب أو عبر صناديق الاقتراع.
وتركيا غير قادرة على مغادرة الصف الغربي لاعتبارات موضوعية: المظلة العسكرية في مواجهة روسيا وأطماعها التاريخية في أراضٍ وممرّات مائيةٍ تركية، كانت روسيا القيصرية الطرف الثالث في مفاوضات تقاسم التركة العثمانية، حيث شارك وزير خارجيتها آنذاك، سيرغي سازونوف، مع الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، في الاتفاق على خطة التقسيم، وكانت قد حصلت على موافقة مبدئية على حصةٍ تشمل أرمينيا الغربية وإسطنبول ومضيقي البوسفور والدردنيل، لكن قيام الثورة الشيوعية عام 1917 أنهى هذه المشاركة، وكشف سرّ الاتفاقية التي أصبحت فرنسية بريطانية، وحملت اسم مندوبي الدولتين اتفاقية سايكس بيكو، فروسيا تسعى إلى فصلها عن الغرب لتحقيق هدفين مختلفين: دقّ إسفين بين دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإضعاف تركيا بعزلها داخل الحلف أو دفعها إلى الخروج منه، كي تستفرد بها وتفرض عليها خياراتٍ تخدم مصالحها، لذا أتاحت لها فرصة التمدّد في الساحة السورية، وغطّت هجومها على "قسد" في عفرين وتل أبيض وراس العين، كي تؤزّم علاقتها بالولايات المتحدة، وصمتت عن تدخلها في القتال بين أذربيجان وأرمينيا، كي تعزّز قناعةً بدأت تتشكّل لديها، أنها غدت قوةً إقليميةً عظمى، وأنها لم تعد بحاجة للمظلة العسكرية الغربية، ما قد يدفعها إلى الخروج من تحتها، ويجعلها لقمة سهلة بعد ذلك.
تركيا غير قادرة على معاداة الولايات المتحدة وروسيا في آن واحد، أو المناورة بينهما، فالثقة بهما معدومة، لأنهما لا تحملان لها نياتٍ طيبة
سعت الولايات المتحدة إلى ليّ ذراع تركيا من طريق فرض عقوباتٍ عليها بذريعة مخالفتها قوانين أميركية، تحرّم شراء أسلحة من روسيا بشرائها صفقة الصواريخ الروسية، والتهديد بزيادتها، ما لم تتخلّ عن الصفقة المذكورة، بدءاً بإخراجها من المشاركة في تصنيع أجزاء لطائرة إف 35، مروراً بتعليق تسليمها طائراتٍ من هذا الطراز، سبق أن دفعت جزءاً من ثمنها مقدّماً، 1.5 مليار دولار، والاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى، وتجديد إعلان حالة الطوارئ الوطنية، بشأن التعامل مع سورية، مدة عام، بسبب العمليات التركية المستمرة ضد "قسد" في سورية، ما يعني تمديد العقوبات عليها عاماً آخر، وأنشأت قواعد عسكرية في اليونان، ولوّحت باعتمادها بدلاً من قاعدة أنجرليك التركية. وقد تأكد ذلك، ليّ الذراع، في مقاطعة الإدارة الأميركية افتتاح البيت التركي في الولايات المتحدة، وتجاهل الرئيس بايدن مساعي تركية لتنظيم لقاء بينه وبين الرئيس أردوغان في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو يعلم حاجته إلى الدعم قبل لقائه المقرّر بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، كي يُشعرِه بأنه ضعيف من دون المظلة الأميركية، ويدفعه إلى إعادة التفكير في السياسات التي تتحفّظ عليها إدارته، أو الاندفاع في قرارات متهوّرة تفقده ما بقي من شعبيته، تمهيداً لإخراجه من الرئاسة في انتخابات 2023، استغل الرئيس الروسي موقف الضعف هذا، ورفض اقتراحاته بشأن إدلب، خلال لقائهما في سوتشي، وصعّدت قواته غاراتها على إدلب، للحصول على تنازلاتٍ تركيةٍ هناك، مع الإبقاء على الضغط، بحدودٍ لا تؤدّي إلى تخريب العلاقة أو قطعها، والتفريط في الإنجاز الاستراتيجي الأهم في الصراع مع الغرب، المتمثل بإقامة علاقةٍ متينةٍ مع تركيا، الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما وضع أردوغان في موقفٍ صعبٍ وحساس: ضغوط أميركية لتعميق مأزقه، ودفعه إلى الرضوخ لطلباتها وضغوط روسية لدفعه إلى التنازل في سورية وليبيا، أو مواجهة استنزاف مديد وخسائر متتالية. فتركيا غير قادرة على الانخراط في أربع حروب في آن واحد، العراق وسورية وليبيا وأذربيجان، بالإضافة إلى المعركة الدائرة مع حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق البلاد، وحسمها أو الخروج منها من دون خسائر. وهي غير قادرة على معاداة الولايات المتحدة وروسيا في آن واحد، أو المناورة بينهما، فالثقة بهما معدومة، لأنهما لا تحملان لها نياتٍ طيبة.
لقد دخلت العلاقات الأميركية التركية مرحلة حرجة، تنذر بنهايات حادّة بالذهاب إلى معركة كسر عظم، بالضغط لإجبار أردوغان على التراجع عن توجهاته الاستقلالية، أو العمل على إخراجه من الرئاسة، ما قد يدفعه إلى الخروج من التحالف الغربي، فيتحقق حلم بوتين.