هل يدرك النظام الرسمي العربي مصالحه؟
لم تتوقف جرائم الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها منذ عام 1948، إذ لم يخلُ يوم من قتل الاحتلال فلسطينيين عزّلاً، أطفالاً ونساءً ورجالاً، أو تهجيرهم قسرياً، أو استيلائه على أرضيهم الزراعية، أو حرقه أراضيهم وتخريبها، أو أسر/ اختطاف المدنيين الفلسطينيين من الأطفال أو النساء أو الرجال، وغيرها كثير من الجرائم الموصوفة في القانون الدولي بأنّها جرائم ضدّ الإنسانية، تصنّف في مجملها ضمن جرائم التطهير العرقي أو الفصل العنصري أو العقاب الجماعي أو التهجير القسري، فضلاً عن جرائم ضدّ البيئة، والعنصرية البيئية، والإبادة البيئية.
انطلاقاً من واقع الاحتلال الصهيوني الإجرامي اليومي؛ واصل الاحتلال جرائمه بحقّ شعب فلسطين وأرضها بوتيرة متسارعة بعد السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، ليقتل أكثر من تسعة آلاف فلسطيني مدني، منهم أكثر من 8900 في قطاع غزّة، ونحو 150 فلسطيني في الضفّة الغربية، معظمهم من الأطفال، وبعضهم للأسف من الرضّع، وهذا ما أكّدته المؤسسات الدولية التابعة أو المرتبطة بهيئات الأمم المتّحدة. كما يمارس الاحتلال جرائمه الراهنة؛ منذ 7 أكتوبر، بمشاركة أميركية وأوروبية واضحة وعلنية. مع ضرورة الإشارة إلى تناقض الموقف الشعبي الأميركي والأوروبي؛ بنسبة مرتفعة، مع مشاركة حكوماتهم في جرائم الاحتلال، كما تكشفه استطلاعات الرأي، والمشاركة اليومية في فعاليات نصرة فلسطين، المطالبة بوقف العدوان الصهيوني.
يبدو الموقف الرسمي العربي هزيلاً؛ بما فيه موقف السلطة الفلسطينية، وأحياناً متواطئاً مع الجرائم الصهيونية
على صعيدٍ إقليمي متصل؛ نجد تبايناً كبيراً بين موقف شعوب المنطقة والنظام الرسمي العربي، إذ توضح التظاهرات الجماهيرية الضخمة في معظم دول الإقليم حجم الدعم الشعبي الكبير، كما تكشف الشعارات المرفوعة في تلك التظاهرات عن طبيعة (وكيفية) هذا الدعم، الذي يتراوح بين الرغبة في تقديم الدعم التقني والبشري والمادي المباشر، والدعم السياسي المطلق، عبر المطالبة بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الاحتلال، ومع القوى الدولية المشاركة في جرائم الاحتلال، وخصوصاً أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. في حين يبدو الموقف الرسمي العربي هزيلاً؛ بما فيه موقف السلطة الفلسطينية، وأحياناً متواطئاً مع الجرائم الصهيونية، إذ ينحصر في معظمه بالدعوة إلى وقف إطلاق النار، من دون أنّ يترافق مع مواقف جدّية وحاسمة تدعم الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها الحقّ في مقاومة الاحتلال، وحقّ العودة إلى المدن والقرى الفلسطينية، التي هجّر منها اللاجئون الفلسطينيون قسراً، وحقّ شعب فلسطين الأصلي في تقرير مصيره على أرضه التاريخية.
من هنا، يبدو النظام العربي غير مدركٍ للآفاق التي فتحتها عملية طوفان الأقصى، كما لا يدرك تداعيات مواقفها الهزيلة مستقبلاً عليه، كما لا يدرك أهمّية استثمار الموقف الشعبي الإقليمي والدولي سياسياً. إذ يملك النظام الرسمي العربي اليوم فرصة نادرة قد لا تتكرّر قريباً، تمنحه القدرة على تعزيز حضوره الإقليمي والدولي، إلى جانب تعزيز مصالحه الضيقة منها؛ مصالح النظام المسيطر، والوطنية كذلك، إذ يمرّ النظام الدولي بمرحلة عدم استقرارٍ على خلفية تصاعد الصراعات والخلافات الدولية، خصوصاً بين المعسكرين الغربي؛ أوروبا وأميركا، والشرقي؛ روسيا والصين، والتي أفضت إلى أزماتٍ اقتصادية متعدّدة، انعكست ارتفاعاً في معدلات التضخّم، وتباطؤ الاقتصاد، وأزمة الطاقة، خصوصاً الغازية منها، وهو ما يجعل من دول المنطقة الغنية بالمشتقات النفطية عامّة، والغازية خاصّة، دولاً مهمة ومؤثرة في الاقتصاد العالمي، والاستقرار الداخلي في الدول المستهلكة، وبالتالي على السياسات الدولية.
تلويح النظام العربي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الداعمة والمشاركة في المجازر والإرهاب الصهيوني يعني تبدّلاتٍ نوعية في التوازنات الدولية بين المعسكرين المتصارعين أو المتنافسين
أيضاً؛ يملك النظام الرسمي العربي اليوم إمكانية استثمار الانقسام؛ بل الصراع، الدولي بين المعسكرين المتخاصمين، وشبه المتحاربين، فالانقسام الدولي الحالي يتطلّب من الأطراف المتنازعة تنافساً كبيراً، على مستوياتٍ عديدة، منها التنافس على الطرق التجارية، والتنافس على مصادر المواد الأساسية؛ النفطية وغير النفطية، وصولاً إلى التنافس على الأسواق، فضلاً عن التنافس المالي، بما يخصّ التمويل والاستدانة والاستثمار الخارجي. إنّ منطقتنا الإقليمية، وموقعها الجيوسياسي، وثرواتها الباطنية والبشرية، تمنحها ميزة مؤثرة على كلّ ما سبق، ما يمكّن دولها من لعب دورٍ حاسمٍ، أو على الأقلّ رئيسي، في الصراع الدولي المحتدم اليوم، وهو ما يمكّنها من فرض رؤيتها، بل إرادتها السياسية، إن أرادت ذلك.
نلحظ كذلك بعدين مهمين على الصعيد الدعائي والشعبي، إذ طالما استغلت الدول الكبرى مواقف شعوبها من النظام الرسمي العربي، بل يمكن القول إنّها ساهمت في تكوين نظرة شعبية سلبية تجاهه، وذلك عبر تعميم الرؤى الاستشراقية الفوقية تجاه مجمل المنطقة، على اعتبارها منطقة خارجة عن التاريخ والحضارة الإنسانية. من ناحية أخرى، تراجعت ثقة شعوب المنطقة بنظمه المسيطرة، وهو ما انعكس من خلال توالي الأزمات الاجتماعية، والثورات الشعبية، فعلى الرغم من سيطرة قوى الثورة المضادّة على زمام الأمور في السنوات الأخيرة، فإنّ قدرتها على ضبط الشارع في المنطقة العربية تثير شكوكاً عديدة، خصوصاً بعد 7 أكتوبر، وتحديداً في الدول المطبّعة مع الاحتلال الصهيوني، أو المتقاربة منه.
بناء عليه، يملك النظام الرسمي العربي أربع أوراقٍ قويّة اليوم، أوّلها الورقة الاقتصادية، التي تشمل وارداته وصادراته، إذ يمكن التلويح بقطع العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال كلّياً أوّلاً، ومع داعميه الغربيين ثانياً، ما يهدّد بارتفاع أسعار المشتقات النفطية، ويضع دول الاتّحاد الأوروبي تحت ضغط أزمة طاقة يصعب تداركها الآن، خصوصاً بعد بداية موسم الشتاء. كما يؤدي قطع العلاقات الاقتصادية إلى خسارة دول المعسكر الغربي السوق الإقليمية الكبيرة والمهمّة، في حين يمكن لدول الإقليم تعويض تلك الصادرات من مصادرة بديلة هندية وبرازيلية وأفريقية وصينية، وهو ما يعزز تباطؤ النموّ الاقتصادي الغربي، ويرفع معدّلات التضخم ارتفاعاً صارخاً.
يملك النظام الرسمي العربي اليوم فرصة نادرة جداً، قد تمكّنه من تحقيق تحوّلٍ نوعي في مكانته الدولية
الورقة الثانية دبلوماسية، إنّ تلويح النظام الرسمي العربي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الداعمة والمشاركة في المجازر والإرهاب الصهيوني، يعني تبدّلاتٍ نوعية في التوازنات الدولية بين المعسكرين المتصارعين أو المتنافسين، وهو ما يعني تداعياتٍ نوعية على المديين، القريب والمتوسط، وربّما على المدى البعيد أيضاً، فضلاً عن تداعياته السريعة على الاحتلال الصهيوني، ودوره المنشود غربياً.
ثالثاً الورقة الجيوسياسية، من خلال استثمار موقع دول الإقليم الحاسم في الصراع الجيوسياسي العالمي، على طرق التجارة البرّية والبحرية والجوية، وهو ما يمنح النظام الإقليمي القدرة على استثمار هذه المشاريع الحيوية للاقتصاد العالمي، عبر تحويلها إلى أوراق ضغطٍ، يمكنها أن تفرض رؤية تحرُّرية تقدّمية تلبّي حقوق شعب فلسطين، ومطالب شعوب المنطقة التنموية والنهضوية والتحررية.
رابعاً الورقة الاستراتيجية، تملك دول المنطقة بحكم أهمّيتها الاقتصادية والجيوسياسية خياراتٍ استراتيجية متنوعة وعديدة في الوقت الراهن، أميركية وأوروبية وروسية وصينية، ولما لا هندية أيضاً، وهو ما يمثّل ورقة رابحة وحاسمة، يمكن التلويح بها في ظلّ الصراع والتنافس الدولي المتصاعد في الآونة الأخيرة.
من ذلك كله، يملك النظام الرسمي العربي اليوم فرصة نادرة جداً، قد تمكّنه من تحقيق تحوّلٍ نوعي في مكانته الدولية، وقد تساهم في معالجة أزماته الداخلية، وربّما الإقليمية، كما قد تمكّنه من تحقيق نهضة وطنية نوعية على أصعدة متعدّدة اقتصادية وثقافية وخدمية وسياسية، تنعكس على مكانة شعوب المنطقة ودولها وقيمها. كما قد يتعرّض النظام الإقليمي في حال امتناعه عن ذلك إلى تحدّياتٍ استراتيجية كبرى، داخلية وخارجية، قد يصعب تدارك تداعياتها المحتملة لاحقاً.