هل "طبّع" كمال الرياحي؟
رمت الكاتبة الفلسطينية، الإسرائيلية الجنسية، ريم غنايم، حملة مناهضة التطبيع مع إسرائيل بتعبير بذيء يعفّ صاحب هذه الكلمات عن ذكره هنا. وكتبت إن رفض التطبيع الثقافي هو "الخطر الذي لا يقلّ إرهابا وخطرا من داعش، وهو يتحوّل إلى أداة فتكٍ وتحريض". هذا كلام غير مهذّب، ويعكس انفعالا وتوترا، وصاحبته مطالبةٌ بالتراجع عنه (أو الاعتذار؟)، وهي الكاتبة والشاعرة والمترجمة التي عُرفت عنها مواقف ووجهات نظر متقدّمةٍ وعميقة، بشأن الحالة الخاصة للفلسطيني في وطنه المحتل في 1948. .. ورد كلامُها الشنيع تعقيبا على اتهاماتٍ وهجماتٍ حادّة استهدفت الروائي التونسي، كمال الرياحي، في بلده، بعد ابتهاجه المعلن بمقالة كاتبٍ (أو ناقد) إسرائيلي، في صحيفة يديعوت أحرونوت، عن روايته "المشرط .. من سيرة خديجة وأحزانها" (دار الجنوب للنشر، تونس، 2006. دار الساقي، بيروت، 2012)، بعد صدورها عن دار نشر إسرائيليةٍ، بالعبرية، بترجمة غنايم. وقد حمل إعلان الرياحي هذا مثقفين تونسيين إلى مهاجمته، في بيانٍ معلن، ربما يتم رفعه إلى الرئيس قيس سعيد، يطلب إزاحته عن موقعه مدير "بيت الرواية" التابع لوزارة الثقافة التونسية. وذهب البيان إلى اتهام الرجل بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ما اضطرّه إلى حذف تدوينته التي أشهر بها غبطته بالذي انكتب في الصحيفة، وهذه عدّها البيان من الأذرع الإعلامية لجيش الدفاع. ولكنه أبى إلا أن يحفظ ماء وجهه، في تأشيره إلى كتّابٍ عربٍ كبار نُقلت أعمال أدبية لهم إلى العبرية.
صدورا عن منظورٍ لا ينهج رفض التطبيع سلوكا متربّصا، أو ملاحقات تفتيشٍ وترصّد، فإن صاحب هذه الكلمات يجد بعض التزيّد في لغة البيان، سيما أن شيئا من التحقّق لزم التأكّد منه بصدد كمال الرياحي، فلم نعرف إن كان قد تواصل مباشرةً مع دار النشر الإسرائيلية التي أصدرت ترجمة روايته، فأجاز لها هذا في اتفاقٍ بينهما موقّع منهما، وتقاضى منها "مستحقّاتٍ" مادّية، أم إنه لم "يورّط" نفسه في "صلة" من هذا النوع. وفي البال أن كتّابا عربا كثيرين أصدرت أعمالا لهم بالعبرية دورُ نشرٍ إسرائيلية، من دون أي اتصالٍ منهم معها من أي نوعٍ، من باب أن هذا أمرٌ لا ينبغي أن يسوقهم إلى ما تريدُه مؤسساتٌ إسرائيليةٌ من تواصلٍ ومراسلاتٍ واتفاقات. ورفضَ كتابٌ عربٌ كثيرون عروضا وصلت إليهم من دور نشرٍ إسرائيليةٍ لتوقيع عقود ترجمةٍ ونشر، واستنكروا هذا، وسمّوه تطبيعا مرفوضا مرذولا، فيما وافق من وافق على هذا الأمر، وارتضى أن يصل إليهم البدل المالي مقابل الترجمة والنشر (محمد شكري مثلا). وعندما ندسّ، نحن العاملون في الصحافة، أنوفنا في مسألة كمال الرياحي، فإن هذا من اختصاص شُغلنا، ولا نفعله ريبةً واشتباها واتهاما وإدانةً مسبقة، فلا يجوز، في الأصل، إشهار محاكماتٍ لكل كاتب عربي اختارت له جامعةٌ أو مؤسسةٌ أو دارُ نشر إسرائيلية نصّا وأصدرت ترجمةً له بالعبرية. وعندما نقرأ بالعربية روايات عاموس عوز وديفيد غروسمان ويزهار سميلانسكي وغيرهم، وكذا مقالاتٍ مترجمةً من الصحافة الإسرائيلية، فإننا لا نقترف إثما تطبيعيا مُدانا.
لا يوضح صاحب "المشرط .." حاله بالضبط، ولم ينف ولم يؤكّد ما ألمحت إليه مقالاتٌ وتدويناتٌ عن علاقةٍ صريحةٍ مباشرةٍ له مع دار النشر الإسرائيلية التي أصدرت روايته بالعبرية. أما المترجمة فرأت أن تشتم الناقدين والساخطين والمتسائلين، وبتوتّر مرفوض، وكان في وسعها أن توضح التفاصيل وتعلن رأيها باحترام، وكان مفترضا منها أن تعتزّ بكل صوتٍ ثقافي عربي، في تونس وغيرها، يعلن مواقف مبدئيةً وجذرية، في رفض أي شبهة تطبيعٍ من أي لونٍ مع أي مؤسسةٍ إسرائيلية. وأن تُمايز، في الوقت نفسه، بين هذا ونشاطها في ترجمة نصوص إبداعيةٍ عربيةٍ إلى اللغة العبرية التي كان حسنا منها أنه سبق أن اعتبرت هذه اللغة "غنيمة حربٍ واحتلال" (ثمّة صدى هنا لعبارة الجزائري، كاتب ياسين، الشهيرة عن اللغة الفرنسية التي كتب بها رواياته). أما غبطة كمال الرياحي (المتراجَع عنها؟) بثناء كاتبٍ إسرائيليٍّ (انتقد مواضع فيها أيضا) بروايته فدليلٌ على سذاجةٍ ونقصٍ معا، وهو ما لا نحبّه لكاتب روايةٍ جيدة حقا، بواقعيتها التي "تصدم الذائقة"، عندما انشغلت، تعبيريا وفنيا، بمشرطٍ كان يُعمله شخصٌ شاذّ بمؤخّرات النساء ليلا، قبل أن يهرب ويصير كما الشبح. تجاوزت الرواية هذا وانصرفت إلى مشاغل أخرى، فجاءت نصّا "بنيتُه هدهدةٌ بين الأزمنة والأمكنة"، بتعبير الناقد صلاح الدين بوجاه (رحل قبل أيام)، في تقديمه الرواية .. تُرى، كيف يستقبل الإسرائيليون عملا أدبيا عربيا مثل هذا؟ لا أعرف. هل طبّع كمال الرياحي؟ لا أعرف.