هل حان دور لبنان؟
أحدثت تصريحات رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي، أخيراً، عن اتفاق على إطار للمفاوضات مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية والبرية، بوساطة الولايات المتحدة الأميركية، صدمة عصفت بنا جميعاً، طاولت جزءاً مهماً من جمهور "الثنائي الشيعي" في لبنان، حزب الله وحركة أمل، ومحور الممانعة، وكل من يرفض متاجرتهما، المحور والثنائي، بقضية التحرّر من أجل تثبيت أركان حكمهما الاستبدادية والطائفية في المنطقة. ولكن وبعيداً عن الموقف المبدئي منهما الآن، علينا التساؤل عن أفق هذا الإعلان، وهل يصح ربطه بتصريحات الرئيس الأميركي، ترامب، ورئيس حكومة دولة الإحتلال، نتنياهو، عن قرب التحاق دول عربية أخرى بركب قطار التطبيع المجحف بقضايانا العادلة، وبالقيم الإنسانية الحرة عموماً؟ وهذا ما يدفع إلى استذكار بعض الأحداث والتصريحات ذات الصلة لبنانياً وسورياً وإيرانياً، استناداً إلى مكونات مجمل محور الممانعة، وجديدها امتناع النظام السوري عن نقد التطبيع الإماراتي، الأمر الذي دفع كتاباً ومثقفين عديدين إلى ردّه إلى أحد سببين، وفق موقف الكاتب من النظام، حيث برّر مؤيدو النظام ذلك بخطوات الإمارات السابقة تجاه الأسد، وحاجة الأخير لهذه العلاقة وضرورة الحفاظ عليها، في حين وجد معارضو الأسد فيها تعبيراً عن قرب تطبيعه مع "إسرائيل" برعاية روسية مباشرة. وهو ما يجب ربطه كذلك بالمكاسب المتعدّدة التي حصلت عليها الدولة الصهيونية أخيراً من نظام الأسد عبر وساطة روسية مباشرة، ومنها استعادة رفات أحد جنودها، ودبّابة لها، وإبعاد إيران عن خط الحدود الفاصل بين كل من سورية والدولة الصهيونية أيضاً. فضلاً عن غياب الرد السوري على جميع الضربات والإنتهاكات الصهيونية المتكرّرة، بل وتراجع حدّة الحديث السوري عنها وعن ماهية الرد، بل رفض النظام أحياناً الإعتراف بهذه الضربات، ونسب الانفجارات الحاصلة داخل سورية إلى ماسّ كهربائي عرضي. كما يبدو أن النظام وإعلامه قد تعمّدا، في الأشهر الأخيرة، عدم استخدام المصطلحات والشعارات الجوفاء نفسها التي ردّدها كثيراً بعد اندلاع الثورة السورية، كغياب الحديث عن فتح الجبهة السورية أمام قوى مقاومة سورية وعربية وطنية، منها حزب الله.
لبنانياً، لا يمكن إخراج تصريحات برّي عن التي أطلقها الرئيس اللبناني، ميشيل عون، من قبله "لدينا مشكلات مع إسرائيل، ويجب حلها أولاً"، كونه اليوم حليف "الثنائي الشيعي" الأبرز، وربما الأقوى، والذي حافظا عليه، وقاما بحمايته، على الرغم من استياء شخصيات وقوى مقرّبة تاريخياً من حزب الله وحركة أمل من تحالفهما معه على حسابها، إذ لم تقابَل تصريحات عون بالرفض أو الاستهجان من "الثنائي الشيعي"، وهو ما يوحي بموافقتهما عليها. وهذا ما أكّدته تصريحات برّي أخيراً، بل وأكدت دور "الثنائي الشيعي" في المساعي الرامية إلى حل الخلاف اللبناني "الإسرائيلي".
حافظت إيران على خطابها الناري تجاه الدولة الصهيونية، وكأنها على شفير الحرب معها، وهو ما يتناقض مع توجهات ومسار أذرعها في المنطقة
كذلك لا يصحّ تناسي الصفقة اللبنانية الأميركية التي أسفرت عن تهريب أحد أهم عملاء "إسرائيل" في لبنان، عامر الفاخوري، الذي هرّبته السفارة الأميركية في بيروت بتواطؤ رسمي لبناني مفضوح، ما أجبر الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في أحد خطاباته، على نقد ما حصل ورفضه، ومطالبته بمحاسبة المسؤولين عن تهريب الرجل، وثبت لاحقاً أن هذا مجرد كلماتٍ لامتصاص الغضب والاحتقان الشعبي الناجم عن هذه الصفقة المشؤومة والمفضوحة، ولاستيعاب نقمة جمهور الحزب من الحزب نفسه، وتحميله مسؤوليتها واتهامه بموافقته المسبقة عليها. ولدينا كذلك إصرار نصر الله، وللمرة الأولى، على تبرئة الدولة الصهيونية بشكل قاطع من أي دور مباشر أو غير مباشر في تفجير ميناء بيروت، على الرغم من تأكيده أن الحزب يجهل تفاصيل المرفأ وترتيباته الأمنية والتنظيمية، فالحزب، وفق نصر الله، يعلم كل شيء عن ميناء حيفا، ويجهل كل شيء في المقابل عن ميناء بيروت، كونه خارج صلاحيات الحزب واهتماماته، وفقاً كلامه. وأخيراً وليس آخراً على المستوى اللبناني لا يمكن تجاهل مسالمة الحزب تجاه الاعتداءات الصهيونية التي طاولت، أخيراً، بيئته ومناطقه داخل لبنان، والتي توعد نصر الله، في أكثر من مرة، بردٍّ مزلزل عليها، لكن ها هي الأيام والأسابيع والأشهر تمضي، من دون أن يقدم الحزب على أي ردّ، ولو ردّاً خلبياً. بل على العكس، تمادت الدولة الصهيونية في اعتداءاتها على الحزب في كل من لبنان وسورية. أما جمهور الحزب فقد تم إلهاؤه عبر تجنيده في معركة داخلية وهمية، تستهدف الحشود الشعبية الغاضبة من مجمل النظام الطائفي المسيطر والحاكم، على اعتبارها أولوية الآن، والخطر الأوحد المحدق بالحزب والمقاومة المزعومة اليوم!
لا يمكن إخراج تصريحات برّي عن التي أطلقها عون "لدينا مشكلات مع إسرائيل، ويجب حلها أولاً"
أما إيران فقد حافظت على خطابها الناري تجاه الدولة الصهيونية، وكأنها على شفير الحرب معها، وهو ما يتناقض مع توجهات ومسار أذرعها في المنطقة من الحزب إلى حركة أمل مروراً بسورية الأسد. الأمر الذي يوحي بعدم جدّية هذه التصريحات التي تبدو وكأنها من أنواع الاستهلاك الداخلي والإقليمي الذي يهدف إلى شحن جمهورها الطائفي والسياسي، والمحافظة على استقطابه. وعليه، يبدو أننا أمام مرحلة جديدة لن يسهل التكهن بنهاياتها الدقيقة، وإنْ كانت المؤشّرات توحي بحقيقة موقف كامل مكوّنات محور الممانعة الراهن من الدولة الصهيونية، ومن مجمل قضايا المنطقة، فمن الواضح أن أولويات المحور مختلفة كثيراً عما يتوهّمه جمهور المقاومة، فلا رغبة ولا حاجة ولا مصلحة لأيٍّ منهم في فتح معركة عسكرية أو حتى سياسية مع الدولة الصهيونية، بل على العكس من الواضح أن جزءاً مهماً من مصالحهم الآنية والمستقبلية، تتقاطع مع المصلحة والتوجه الصهيوني، وهو ما يدفع بخطواتٍ حثيثة نحو التقرّب منها والتوافق معها، غير أن العائق الوحيد حالياً أمام تحوّل هذا التقارب، وربما التعاون معها، إلى تحالف وتطبيع شامل وكامل، كنظرائهم في دولة الإمارات العربية، هو حاجة المحور لاستقطاب جماهير المنطقة خلف خطابهم الكاذب والخادع، خدمة لمعركتهم الطائفية والاستبدادية مع قوى الثورة المضادّة، ومع منافسيهم الإقليميين والدوليين حول هوية القوى المسيطرة على المنطقة أو جزء منها.
وعليه، حان الوقت لكنس أوهام التعويل على النظام الرسمي العربي والإقليمي لتحرير الأراضي العربية المحتلة، والفلسطينية خصوصاً، أو حتى للإنتصار لمطالب الشعوب المحقة في الحرية والعدالة والمساواة والتطوّر، إذ تثبت الأحداث المتعاقبة، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن الفروق بين المحور السعودي الإماراتي ومحور الممانعة، من حيث مواقفهما من قضايانا وحقوقنا الوطنية والإنسانية تكاد لا تذكر، وهو ما يجب أن يدفعنا إلى بناء تحالفٍ للشعوب الحرة من فلسطين وسورية إلى المغرب وليبيا بأسرع وقت ممكن.