هل تخلى الأميركيون عن فرنسا في النيجر؟
في زيارته نهاية العام الماضي واشنطن، ومع حرصه على الاحتفاظ باللغة الدبلوماسية، واستخدام عباراتٍ مثل "إخوة السلاح"، تذكّر بالعلاقات التاريخية والحروب التي خاضها الشعبان وهما في جانب واحد، إلا أن زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كشفت عن وجود خلافات بين البلدين. ومن موضوعاتٍ أثيرت حينها كان التشريع الأميركي الخاص بتوفير الدعم للسيارات المحلية الكهربائية. كان ذلك التشريع يحمل فوائد كثيرة على المستوى الوطني الأميركي، كتقديم دعم للطبقة الوسطى والمساهمة في الحفاظ على البيئة. كان الاعتراض الفرنسي ينطلق من أن هذه السياسة "الحمائية" تتعارض مع مبدأ السوق الحر، وتؤثر، بشكل كبير، في المنافسة الدولية، خصوصاً بالنسبة للشركات الفرنسية والأوروبية المنتجة لهذه السيارات، والتي ستقود السياسة الجديدة لإخراجها من السوق فعلياً، لأن ثمنها سيكون غالياً بالمقارنة مع نظيراتها الأميركية. وتعلق الموقف الثاني الذي عبّر عنه ماكرون بالحرب الأوكرانية، التي تدفع فرنسا، ومن خلفها أوروبا، فواتير عالية مقابل استمرارها، سواء على صعيد التهديدات الأمنية أو على مستوى الحرمان من مصادر الطاقة الروسية. على الرغم من التضامن مع أوكرانيا، رأى الفرنسيون أنه كان يجب فتح فرص للحوار والتفاوض مع الجانب الروسي.
لم تنجح تلك الزيارة في إحداث تغيير في المواقف الأميركية بشأن هذه القضايا، حيث اكتفى الرئيس الأميركي، بايدن، آنذاك بالتعبير عن استعداده للحوار مع بوتين، لأجل إنهاء الصراع. وبشأن السيارات الكهربائية، قال بحزم إنه لن يكون هناك تراجع عن القرار.
لم يكن ذلك كل شيء، حيث سبق الزيارة ما وصفته الصحافة الفرنسية بطعنة أميركية في الظهر، وذلك بالإشارة إلى إلغاء ما سمّي آنذاك بصفقة القرن، المتعلقة ببيع مجموعة من الغوّاصات الفرنسية المتطوّرة لأستراليا. قاطع الأميركيون الصفقة، وتسبّبوا في إلغائها، بعد أن عرضوا أسطولاً أكثر تطوّراً من الغوّاصات النووية. أثار ذلك غضب الفرنسيين، الذين رأوا في التحالف الأسترالي الأميركي البريطاني الناشئ رغبة في إقصائها.
بدت محاولات فرنسا تحريض منظمة "إيكواس"، التي تجمع دول غرب أفريقيا، غير ناجحة، حيث لم يظهر الأميركيون أي نيّة لدعم العملية العسكرية بالمال أو اللوجستيات
إلى جانب هذه القضايا، أظهرت الفترة الماضية اختلافات أخرى بين باريس، المؤيدة تعزيز استقلالية الاتحاد الأوروبي بعيداً عن أي تأثيرات أميركية، وواشنطن، التي لا تخفي ضيقها من هذه التوجهات إلى درجة اعتماد سياسة فيها كثير من الضغط على الفرنسيين. وفي هذا، يذهب كثيرون من كتّاب الرأي والمحللين الأوروبيين إلى أن الحرب الأوكرانية نفسها ليست سوى شرك أميركي من أجل إخضاع الأوروبيين وإضعافهم وإرهاقهم اقتصادياً، ما يساهم في المحصّلة بمضاعفة أهمية القطب الأميركي حليفاً وضامناً أمنياً لا يمكن الاستغناء عنه.
في الاتجاه ذاته، ومع تراجع نفوذ باريس في مستعمراتها السابقة، واضطرارها لإخراج قواتها من دول أفريقية مهمة، كبوركينا فاسو ومالي، وأخيراً النيجر، فإن أسئلة كانت مطروحة منذ البداية بشأن الدور السلبي للولايات المتحدة التي لم تسع إلى التدخّل بأي شكل من أجل الضغط على القيادات الجديدة، التي انقلبت بالأساس على سياسة التبعية الفرنسية.
في المسألة النيجرية، نذكر أن الولايات المتحدة لم تصف من استحوذوا على السلطة هناك بالانقلابيين، بل اكتفت بالدعوة إلى استعادة المسار الديمقراطي، والحفاظ على سلامة الرئيس المعزول. فرنسا، التي أظهرت غضبها ورفضها الانقلاب منذ أول يوم إلى درجة التهديد بالحرب، لم تستطع تنفيذ تهديدها، حيث كان دخولها في حربٍ مباشرة غير ممكن، خصوصاً أنها لم تجد السند الدولي الكافي. من جهة أخرى، بدت محاولات تحريض منظمة "إيكواس"، التي تجمع دول غرب أفريقيا، غير ناجحة، حيث لم يظهر الأميركيون أي نيّة لدعم العملية العسكرية بالمال أو اللوجستيات.
لا تزال فرنسا، التي ترفض الاعتراف بالسلطة الحالية في النيجر وقراراتها المتحدّية نفوذها، تلوّح بالحرب، لكن الظاهر أن الأميركيين ينوون تركها لتخوض معركتها وحيدة
بالنسبة لباريس، المرتبطة باليورانيوم والموارد النيجرية الأخرى، والتي تريد الإبقاء على قاعدتها العسكرية الاستراتيجية، التي تشرف على منطقة وسط أفريقيا وغربها، كان خروج الأمور في النيجر عن السيطرة أمراً غير مقبول. أما واشنطن، الموجودة أيضاً عسكرياً بقوات متوزّعة ما بين مدينتي نيامي وأغاديس، فلاحظت، منذ البداية، أن الخطابات العدائية لم تكن موجهة إليها، كما أنها لم تكن مستهدفة بحملات الغضب الشعبي. لهذا، لم ينتج عن الأحداث تسرّع لإجلاء الرعايا الأميركيين على غرار ما قام به الفرنسيون، بل على العكس جرى الإعلان عن موافقة مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين كاثلين فيتزجيبون في منصب السفير، ما أكّد الحرص على الحفاظ على خطوط التواصل. وربما لم تستوعب فرنسا الحساسية الأميركية من فكرة التدخّل العسكري، الذي تعتبر أنه كان مكلفاً وفاشلاً في كل تجاربه السابقة. وتجعل هذه الحقيقة الولايات المتحدة تتردّد في الدخول في معارك عسكرية، حتى ضد أنظمة ظاهرة العداء لها، خوفاً من التداعيات الأمنية والاقتصادية.
بعكس الموقف المتشدّد للفرنسيين، والمتمثل بالتمسّك بشرعية الرئيس المعزول محمد بازوم، ورفض الاعتراف بما سواه، فإن الولايات المتحدة أرسلت مبعوثتها فيكتوريا نولاند، التي تشغل منصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، للتواصل مع السلطات الجديدة. على الرغم من أن نولاند لم تستطع مقابلة تشياني، قائد الانقلاب، فإن ذلك كان خطوة مهمّة في اتجاه منح الشرعية للنظام المتشكّل. من الملاحظ هنا أن اسم نولاند يذكّر بحادثة محرجة حدثت إبّان حرب أوكرانيا الأولى، وتعلقت باستخدامها عبارة بذيئة، إبّان حديثها في مكالمة هاتفية عن الاتحاد الأوروبي. اكتفت نولاند، التي رفضت الاعتذار أو التعليق على العبارة، بالقول إنها لن ترد على شيء مرتبط بمكالمة خاصة.
مع صعوبة المهمّة، لا تزال فرنسا، التي ترفض الاعتراف بالسلطة الحالية وقراراتها المتحدّية نفوذها، تلوّح بالحرب، لكن الظاهر أن الأميركيين ينوون تركها لتخوض معركتها وحيدة. هذا الموقف مشابه لموقف فرنسا التي كانت قد نأت بنفسها عام 2003 عن المشاركة في الحرب الأميركية على العراق، تاركة الأميركيين في مواجهة التبعات المالية والأخلاقية للحرب.