فوز ترامب... ما مصير نظرية المؤامرة؟

05 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في مدى السنوات العشر الماضية، التي كان فيها الرئيس دونالد ترامب مركزاً للسياسة الأميركية، استطاع أن يستثمر في فكرة تآمر الجميع عليه، وهي فكرة تأسّست على أنه جاء من خارج النادي السياسي، ومن خارج "المؤسّسة". لم يكن ترامب يُخفي، إبّان حقبته الرئاسية، كراهيته الإعلام الذي كان ينتقده بشراسة ولا يرى فيه سوى عدوّ مدفوع من سياسيين منافسين من أجل تشويه صورته. من المفارقات إبّان ذلك العهد أن رئيس الدولة الديمقراطية (الأكبر والأكثر أهميةً) لم يكن يُخفي إعجابه برؤساءَ ديكتاتوريين ومستبدّين، وبقدرتهم على التحكّم في الوسائط الإعلامية. وهو ما كان يبدو متحسّراً على أنه لا يستطيع فعله.

الملاحقات القانونية إبّان فترته الرئاسية، التي كادت أن تودي بمستقبله زعيماً للبلاد، ثمّ ما تلاها من اتّهامات لاحقة، سياسية وأخلاقية، لم تفعل إلّا أن ساعدته في التأكيد على ما ظلّ يؤمن به، وهو أنه يتعرّض لهجمة منظّمة تحاول إبعاده عن السلطة.

نتيجةً لذلك، لم يتقبّل خسارته الانتخابات في المرّة السابقة، بل بادر بإعلان رفضه والحديث عن وجود تلاعب، وهو ما تلقّفه الآلاف من أنصاره، الذين كانوا يرون فيه الزعيم والمنقذ، فتجمّعوا للهجوم على مبنى الكابيتول بشكل عنيف وغير مسبوق في التاريخ الأميركي.

الاتّهامات المتعدّدة، التي وجِّهت لترامب بعد ذلك، وحادثة إطلاق النار التي بدت محاولةَ اغتيال جادّة إبّان الحملة الانتخابية أخيراً... ذلك كلّه كان يرسّخ القناعة بوجود مؤامرة تهدف لمنع الرجل غريب الأطوار من تنفيذ برنامجه، الذي لو تعاملنا بجدّية مع ما كان يعد به، لقلنا إنه يمثّل انقلاباً على كلّ ما يمثّل الديمقراطية والسياسة الأميركيتَين.

من المخاوف، التي كان يفكّر بها كثيرون من متابعي الانتخابات الأميركية، أن أنصار ترامب المترقّبين والمشحونين بأفكار المؤامرة، لن يكون من السهل إقناعهم بتقبّل النتيجة إذا ما جاءت في غير صالح مرشَّحهم، ما يعني أن البلاد قد تدخل دائرة عنف ومواجهات قد تفوق ما حدث إبّان أحداث "الكابيتول".

لوران بوبير، عضوة الكونغرس من ولاية كلورادو، كانت من أولئك المتحمّسين لترامب أيّام السباق الانتخابي، كما كانت مؤمنةً بأنّ برنامجه قادر على استعادة "العَظَمة" الأميركية، والتديّن الذي كادت البلاد أن تفقده بيد الديمقراطيين، الذين "لا يؤمنون بالربّ".

بوبير، التي عرفت بخطبها الحماسية، وجمعت لنفسها عدداً كبيراً من الأنصار، كانت مؤمنةً أيضاً بوجود مؤامرة، وبأنّ على الجمهوريين، وبشكل خاصّ أنصار ترامب، أن يتعاملوا مع المعركة الانتخابية حرباً صليبيةً، بالمعنى المعنوي، أو بالمعنى المادي المتعلّق بالمدافعة ضدّ انتصار "غير المؤمنين".

 أنصار ترامب غير نادمين على أحداث "الكابيتول"، بل يرون أنّها كانت مؤامرةً ضخّمت فيها الشرطة آثار الهجوم

عزّزت تلك الأجواء المخاوف من اندلاع "حرب أهلية"، وهو المصطلح الذي تردّد أكثر من غيره خلال السباق الانتخابي، خوفاً من تداعيات اليوم التالي لإعلان النتيجة، خاصّة أن كثراً من أنصار ترامب لا يبدون نادمين على أحداث "الكابيتول"، بل يرون أنّها نفسها كانت مؤامرةً ضخّمت فيها الشرطة آثار الهجوم وافتعال المزيد من التخريب من أجل تمرير نتيجة الانتخابات، وإشغال الناس بحدث ثانوي.

المخاوف من حدوث عنف سياسي موجودة على الدوام في الدول كلّها، لكنّ الأمر له خصوصية أكبر في الولايات المتحدة بسبب العنف المنتشر، والخبرة التي تملكها شرائح كثيرة من الشعب في التعامل مع أنواع مختلفة من الأسلحة، هذا إضافة إلى وجود عدد من المجموعات المسلّحة المنظّمة واليمينية مثل تلك، التي قامت باختطاف حاكم ولاية ميشيغين. لا ننسى أيضاً أن الولايات المتحدة هي البلد الذي شهد حوادث اغتيال شخصيات بارزة، في رأسها جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ وغيرهم، وهو ما يعني أن تكرار مثل هذه الحوادث لن يكون سابقةً.

في كتاب نشرته بداية العام 2022، تناولت الأكاديمية الأميركية، وعضوة مجلس العلاقات الخارجية الأميركي باربارا والتر، هذا الاحتمال. الكتاب، الذي منحته عنوان "كيف تبدأ الحروب الأهلية وكيف نوقفها؟"، تمحور حول فكرة أنه يجب عدم التقليل من احتمال اندلاع حرب أميركية داخلية، أو الظنّ بأن الحروب الأهلية منحصرة في العالم الثالث. كان ذلك الرأي يكتسب أهميته من أن صاحبته تُعدّ من الباحثين المتعمّقين في مجال الحروب الأهلية. مثل هذه النقاشات توضّح إلى أيّ مدىً تكون الأفكار حول الفوضى الشاملة و"الحرب الأهلية" حاضرةً في أذهان السياسيين والباحثين.

أميركا "العظيمة"، التي يريد ترامب إحياءها، ليست سوى أميركا البيضاء والمسيحية، فأحد أوجه المعارك ضدّ الديمقراطيين كانت المعركة ضدّ "تلوين" البلاد، وجعل هُويَّتها سائلةً ومتعدّدةً. قد تكون هذه النقطة، التي تضادّ المشروع الليبرالي واليساري المنفتح على جميع الخلفيات والألوان ويحترم التنوع، من أكثر ما جمع المصوّتون لترامب حوله.

أميركا "العظيمة"، التي يريد ترامب إحياءها، ليست سوى أميركا البيضاء والمسيحية

جعلت هذه الحقائق باحثاً مثل عزمي بشارة يستغرب حماسة أميركيين من أصول عربية أو إسلامية للتصويت لترامب، فبنظره لن يكون الحزب الجمهوري أبداً المكان المناسب للأقلّيات، أو الحزب الذي يمكن أن يخلق فيه مسلمون أيَّ نوع من الاختراق.

على كلّ حال، وبغض النظر عن الأسباب والتحليلات التي قدّمها كثيرون من المتطرّقين إلى الموضوع، فإن النتيجة كانت فوز ترامب، وهو ما جعل أنصاره يتنفّسون الصعداء، وما جعل احتماليات المواجهة عقب إعلان النتيجة تختفي.

في المقابل، يمكن التساؤل حول مصير النظرية التي بنى عليها ترامب دعايته ومشروعه السياسي، فهل سيواصل الحديث عن مؤامرة تستهدفه كلّما واجه أيَّ صعوبات أو عراقيل (وهذا متوقّع)، خاصّة إذا عمد إلى تنفيذ أجندته المتطرّفة؟ أم أن هذه النظرية استنفدت أغراضها بصنعها الضغط والتعاطف الكافيين لمساعدته في العودة إلى البيت الأبيض؟... إجابة هذا السؤال لن تتأخّر في الظهور عند أوّل تحدٍّ.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق