لماذا الانتصار السوري مزعج؟
بهروب بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، طويت صفحة أحد أكثر أنظمة العالم الثالث قمعاً وامتهاناً لحقوق الإنسان. كان ذلك مدعاةً لفرح ملايين السوريين في داخل البلاد وفي المهاجر التي أُجبر كثيرون على الهروب إليها طلباً للسلامة والنجاة. لم تقتصر حالة الفرح عليهم، بل اشترك معهم فيها كثيرون ممّن تابعوا ما كان يجري من عمليات قتل جماعي وتهجير منذ اندلاع الثورة السورية. ازداد هذا الابتهاج بعد توارد الصور والفيديوهات عن مراكز الاعتقال والتعذيب التي كشفت بعد سقوط النظام، وكان ناشطون سوريون يحكون عنها من دون أن تجد مناشداتهم وطلباتهم بشأن معاقبة القائمين عليها آذاناً صاغية. علّق كثيرون على صور خروج المعتقلين والمعتقلات من الغرف السرّية والمخابئ تحت الأرضية قائلين إن هذا التغيير يكفيه نجاحاً أنه أنهى معاناة الآلاف مثل هؤلاء الناس، الذين أمضى بعضهم عقوداً طويلة بعيداً من الشمس والحياة.
يزعج الانتصار السوري أنصار أنظمة القمع والاستبداد
في مقابل هذه الحالة من الإحساس بالانتصار، كانت هناك فئات كثيرة لا تُخفي انزعاجها من هذا التحوّل، الذي غيّر شبكة العلاقات المحلّية والإقليمية بشكل تام. داخلياً، كان في مقدّمة هذه الفئات المستفيدون السابقون من وجود نظام الأسد، سواء من العائلات المقرّبة أو من أصحاب الصفقات المشبوهة، أو ممن كانت البلطجة والتشبيح والتجسّس على الجميع مصدرَ دخلهم الوحيد، ممّن كانوا يقتاتون على ترويع وابتزاز البسطاء الذين كانوا بلا حول ولا قوة. وللدفاع عن الوضع السابق، كان كثير من المتضرّرين المنزعجين يكرّرون الحديث عن أن ما حدث مؤامرة خارجية. من الطريف في هذا الخطاب الهستيري أنه يربط هذه المؤامرة بتركيا وبالكيان وبالولايات المتحدة في الوقت نفسه، بل تضاف روسيا نفسها أحياناً لتتهم بالضلوع في الأحداث، وفق صفقة متوهّمة تشارك فيها الجميع. الدور التركي في تحقيق هذا الانتصار لم يُنكر، لا من الثوار، ولا من تركيا، التي تنظر إلى ما حُقِّق بفخر، وتقول إن مساعدة الشعب السوري سوف تتواصل عبر تقديم دعم لمشاريع التنمية وإعادة التعمير. هذا لا ينفي دور (وحماسة) الشباب السوري، الذي لم تنسه الظروف الصعبة ما مورس ضدّه من جرائم. الحقيقة أنه من دون هذا العامل الخاصّ بثبات الثوار والمقاتلين، لمّا كان بالإمكان تحقيق أيّ نصر مهما كان الدعم المقدّم.
ولا يقتصر الانزعاج على الاحتقان الداخلي، وإنما يمتدّ إلى الأطراف الخارجية، سواء التي كانت داعمة أو مستفيدة من وجود النظام الساقط، أو التي استطاعت أن تتعايش معه وأن تضبط بوصلة مصالحها على وجوده وبقائه. تبقى إيران في مقدّمة الأطراف الخارجية التي لم تُخفِ انزعاجها وضيقها من النظام المتشكِّل، وهي التي تمدّدت عسكرياً وسياسياً داخل سورية خلال العقدَين الأخيرَين، خاصّة بعد انخراطها في الحرب على الشعب بواسطة مليشياتها الطائفية، وترى اليوم أن ما بنته (واستثمرت فيه) من علاقات عبر النشاط الاقتصادي والتجنيس والتبشير العقائدي قد تلاشى. الخيار الأول لإيران كان الدفع بمزيد من المليشيات الفوضوية إلى ساحة القتال دعماً للنظام الحليف، لكن ما تبيّن منذ أول أيّام الزحف باتجاه العاصمة ضمن عملية ردع العدوان، هو أن هذا الرهان فاشل، بسبب أن النظام المتهاوي نفسه لم يكن مستعدّاً للكفاح من أجل البقاء، فآثر رأس النظام الهرب والنجاة بنفسه. حتى بعد نجاح المقاتلين في السيطرة على الأوضاع، وفي التمكّن من تكوين إدارة سياسية وحكومة، فإنّ التصريحات الإيرانية الغاضبة لم تتوقّف، وكذلك التهديدات والتحذيرات ممّا سمّاه فاعلون، كوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، "الفرح قبل الأوان". وفي دمشق، تتعامل الإدارة الجديدة مع التصريحات الإيرانية بجدّية وتعترض عليها، مؤكّدة أنها لا ترغب في خسارة طهران، شرط أن تحترم الأخيرة خيارات السوريين، لكن اندلاع تظاهرات طائفية مسلّحة، ونجاح هجمات إرهابية في إيقاع عدد من الضحايا من بين العناصر الأمنية، كان يوحي بأن هذه الرغبة في إنشاء علاقة صحية إنما تنبع من طرف واحد.
بعضهم يضايقه أن هذا التغيير في سورية جرى بأيدي إسلاميين يرونهم غير جديرين بالحكم
يزعج الانتصار السوري أيضاً أنصار أنظمة القمع والاستبداد، فقد كانت النظرية تقول إن التمادي في العنف والإرهاب وتوسيع دائرة التنكيل هي الضمانات الأكيدة لبقاء الأنظمة الديكتاتورية. تهاوي النظام الأشرس وذوبانه خلال ساعات، ونجاح أفراد من العامّة في الوصول إلى السلطة وتكسير صنم الدولة العسكرية والأمنية التي ترسّخت عقوداً، ليست خبراً جيداً لأيّ مستبد، فأبسط آثاره ذلك الأمل الذي يمكن أن يُضخَّ في شرايين المواطنين الطامحين للتغيير. ولا تقتصر دائرة الانزعاج على هؤلاء، فهناك المغيّبون باسم القومية، من الذين يؤمنون بأن ما حدث خيانة لـ"محور المقاومة". هناك أيضاً من يتمحور اعتراضه على الخلفية السياسية للقادة الجدد، فهو يتضايق من أن هذا التغيير جرى بأيدي إسلاميين، فيرى أن أولئك غير جديرين بالحكم، وإن كانوا من وقف خلف سقوط النظام، وتحمّلوا تبعات النضال العسكري ضدّه. من الفئات الأخرى المنزعجة "الدولتية"، وهي فئة تشمل قوميين وفئات من الإسلاميين أيضاً ممّن يقدّسون الأنظمة والجيوش، حتى إن كانت مشوّهةً وغارقةً في الفساد، لدرجة تناقض بقائها مع بقاء الشعب نفسه.