هجوم الحديدة... ردعٌ أم ترقيعٌ للردع الإسرائيلي؟

28 يوليو 2024

طائرة إسرائيلية مقاتلة لحظة انطلاقها لقصف الحديدة نشرتها تل أبيب (20/7/2024 رويترز)

+ الخط -

أراد الإسرائيليون من هجومهم على مدينة الحديدة (غربي اليمن) تحقيق أهدافٍ عديدة، منها هدف تحدّث عنه قادتهم بوقاحة، محاولين إفهامه للجميع في المنطقة، من الأصدقاء والأعداء، أنّ مصيراً مشابهاً للهجوم على الأراضي اليمنية ينتظر كلّ من يُفكّر في شنّ عمل عسكري على دولة الاحتلال ويقتل أحد رعاياها. ويندرج هذا الأمر في مسعى إعادة شيء من الهيبة التي فقدتها المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية والاستخبارات الإسرائيلية وجيش الاحتلال، واستراتيجية الردع الخاصّة بهم، بعدما مرَّغ رجال المقاومة الفلسطينية في غزّة هذه الاستراتيجية بالتراب، وبعدما هشّمت عملية طوفان الأقصى، وهجمات حزب الله، وجماعة الحوثي اليمنية، والفصائل العراقية، صورة "إسرائيل القويّة". وقد احتاج الإسرائيليون إلى الهجوم على الحديدة لترميم صورتهم، التي يقول الواقع وتداعيات هجوم طوفان الأقصى، إنّه لا يمكن ترميمها بالسهولة التي توقّعوها.

 إنّ الردع الإسرائيلي، القائم على إدخال الخوف في قلوب شعوب الجوار، قد أصابه خلل كبير بعد عملية طوفان الأقصى
 

في الوقت الذي بيَّن فيه نجاح الطائرة اليمنية المُسيّرة، التي ضربت تلّ أبيب في 19 يوليو/ تمّوز الجاري، في تخطِّي الدفاعات الجوية الإسرائيلية المُكوّنة من طبقات عدّة، مدى هشاشة هذه الدفاعات، وإمكانية توجيه ضربات مماثلة تثبّت الخلل في التفوق الإسرائيلي، بيَّن الهجوم على الحديدة أنّه يهدف إلى إعادة التأكيد أنّ سلاح إسرائيل الجوّي يمكنه الوصول إلى أيّ مكان، وتهديد من تريد وضرب من تريد، من دون أن تتلقّى ردّاً مناسباً. غير أنّ الطائرة يافا، التي قطعت ألفي كيلومتر، وضلّلت الدفاعات الجوّية، ووصلت إلى تلّ أبيب وانفجرت في وسطها، وكذلك الهجمات اليومية، التي تطاول مُؤسّسات الكيان ومصدرها لبنان واليمن والعراق وقطاع غزّة، تقول بإمكانية إيلام هذا الكيان بطرائق لم يعهدها أو يتوقّعها، والأكثر أهمّية إبقاؤه تحت التهديد الأمني الخارجي، الذي يُعدّ مَقتَلاً عملت خطط الإسرائيليين كلّها، ومن خلفهم القوى الغربية، منذ تأسيس الكيان، من أجل إبعاد هذا التهديد، الذي يُؤثّر في استقراره، ويدفع قاطنيه من الإسرائيليين إلى الهجرة منه.
تاريخياً، ولكي تزرع الخشية في قلوب أبناء المنطقة العربية وقادتها، ولاحقاً في قلوب الإيرانيين أيضاً، أسّست دولة الاحتلال قوّةً عسكريةً حرصت على إبراز تفوّقها التكنولوجي واللوجستي والقتالي، على جميع دول المنطقة. ولهذه الغاية، ارتكب جيش الاحتلال جرائم حرب في حقّ مصريين وسوريين ولبنانيين، إضافةً إلى حروب التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي لا يتوقّف عن شنها على أبناء الشعب الفلسطيني. كما وجّه ضرباتٍ إلى المفاعل النووي العراقي (1981)، ووجّه ضربةً إلى مقرّ منظّمة التحرير الفلسطينية في تونس (1985)، ولما قيل إنّه مشروع مفاعل نووي سوري (2007)، وغيرها من ضربات عميقة. ولا فرق لدى الإسرائيليين إذا ما كانت المواقع التي تستهدفها طائراتهم الحربية عسكرية أم مدنية، بل حين يكون الهدف مدنياً، كما في حال مدرسة بحر البقر في مصر، أو مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في قطاع غزّة، أو مشافي القطاع، التي أبادتها في حربها الجارية هذه الأيام، يكون وقع الترهيب أقوى، حين يعلم قادة المنطقة أنّها لا تعترف بالمحرّمات.
في هذا الإطار، وفي رسالته التي وجهها وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، بعد الضربة، قصد إسماع أصدقائه العرب قبل أعدائه، تهديداته التي جاءت في بيان اختار كلماته بعناية فائقة. وإذ اختارت الطائرات الحربية الإسرائيلية، بالإضافة إلى محطة الكهرباء، منشآت تخزين النفط اليمنية في ميناء الحديدة، لإشعال نيران تلامس ألسنتها السماء، حتّى يراها الجميع، قال غالانت، بالتزامن مع بثّ صور الحرائق: "إنّ النيران المُشتعِلة حالياً في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والمغزى واضح". ولكونه يعرف مدى الانقسام الداخلي الذي أصبح عليه كيانه بعد ما لحقه من ضربات عسكرية أظهرت ضعفاً فيه يقارب الهزيمة، ويظهره غير قادر على حماية رعاياه. أضاف غالانت: "في المرّة الأولى التي ألحق فيها الحوثيون الأذى بمواطن إسرائيلي قمنا بضربهم"، وهي رسالة إلى الداخل يحاول بها قادة الكيان إعادة ثقة الإسرائيليين فيهم، بعد ما ظهروا غير قادرين على حمايتهم.
لن نضيف جديداً إذا ما قلنا إنّ الردع الإسرائيلي، القائم على إدخال الخوف في قلوب شعوب الجوار، قد أصابه خلل كبير بعد عملية طوفان الأقصى، التي خلخلت أركانه وضربت المُسلّمات التي ظنّ قادته أنّها أبدية. حصل ذلك حين وضع رجال المقاومة الخوف تحت أرجلهم، وشنّوا للمرّة الأولى ما يمكن تصنيفه "حرباً تحريرية"، وهي الرمزية التي زلزلت أركان الكيان، الذي سلّم بأنّ إرادة التحرير، بل حتّى إرادة الرفض والمقاومة، قد أماتتها القوّة الإسرائيلية التي لا تعرف حدّاً. لذلك جاء العنف المُنقطِع النظير، الذي مارسته القوات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة على غزّة في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، ومسارعة الدول الغربية لنجدتها من خطر وجودي سببته العملية، من أجل استعادة قوّة الردع الإسرائيلية مهما كان الثمن.
في صعيد آخر، سبّبت عملية طوفان الأقصى، والحرب الإسرائيلية على غزّة، عكس ما يرجو الإسرائيليون، إذ أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعدما كانت في طور التصفية، وأظهرت الوجه الإجرامي لدولة العدو وفضحتها أمام شعوب العالم، ما أدّى إلى تغليب السردية الفلسطينية على السردية الإسرائيلية، وتزايد الأصوات الرسمية والشعبية التي تطالب بإقامة دولة فلسطينية. كما تعالت الأصوات المطالبة بمقاطعة شركات الكيان الإسرائيلي والشركات الداعمة له، وخرجت مظاهرات في جميع أنحاء العالم تطالب بوقف الحرب على غزّة، وإنزال العقاب بدولة الاحتلال. وكان تجريم الكيان الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وثبوت ارتكابه جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، ثمّ توجّه المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مُذكّرتَي اعتقال في حقّ كلّ من نتنياهو وغالانت بسبب جرائمهما، بمثابة إلحاق العار بقادة الكيان، وإظهارهم بمظهر المجرمين. وتعد هذه المُستجدّات في حدّ ذاتها مقابلاً معنوياً للخسارة الفعلية، التي لحقت بالكيان بعد عملية طوفان الأقصى، وفشل الإسرائيليين في القضاء على "حماس"، وبفعل استمرار حرب الاستنزاف، التي يتعرض لها الكيان من كل الجبهات، التي تُعدّ في النهاية ضرباً لاستراتيجية الردع الإسرائيلية، وعاملاً في زيادة تآكل أمن الكيان وأمن سكّانه.

يدرك قادة الاحتلال أنّ حجم إرهابهم اللامحدود يُدخِل الخشية في قلوب قادة الأنظمة العربية، ويدفعهم إلى التطبيع معها

كما فرمل "طوفان الأقصى" خطط رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الاستراتيجية، بالتعاون مع حلفائه في الغرب، لإعادة هندسة المنطقة عبر اتفاقات أبراهام، لنشر التطبيع بين الأنظمة والشعوب، ودمج دولة الاحتلال الإسرائيلي في المحيط العربي، ومشاركتها في الخطط الاقتصادية والجيواستراتيجية، التي يطرحها بعض قادة المنطقة، لربط البنى التحتية الإقليمية وإقامة المشروعات الاقتصادية الكُبرى، فتصبح جزءاً من نظام أمني إقليمي. ويأتي ذلك كلّه لضمان ريادتها لأيّ نظام إقليمي اعتماداً على تفوّقها في مجالات التكنولوجيا والطاقة والعسكرة والقدرات النووية، لكي تتمكّن في النهاية من فرض التخلّي عن القضية الفلسطينية خطوةً نحو تصفيتها. وكان نتنياهو يريد من ذلك فرض كيانه قوّةً رادعةً في وجه دول الإقليم، على الرغم من تطبيعها مع كيانه، هذا التطبيع الذي لا يشفع لدول المنطقة، ولا يبعد عنها الخطر الإسرائيلي، والتهديد الماثل دائماً، والذي جاء بيان غالانت يُؤكّده.
يدرك قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي أنّ قوّتهم وحجم إرهابهم، الذي لا يقف عند حدود، هو ما يُدخِل الخشية في قلوب قادة الأنظمة العربية، ويدفعهم إلى طلب ودّها والتطبيع معها، لكي يداروا سفاهتهم، ويحفظوا سلامة جلدهم من الحماقات الإسرائيلية. غير أنّ الشعوب العربية عادة ما تكون على عكس ما وجدت عليه زعماءها في قضية العلاقة مع الإسرائيليين. وإذ لم يُخِف الهجوم على الحديدة الشعبَ اليمني، ولا الحرب على غزّة الشعبَ الفلسطيني، ولا الهجمات على جنوب لبنان الشعبَ اللبناني، يُصبح الردع الإسرائيلي في هذه الحالة في طريقه إلى الأفول، مهما استمرّت محاولات الإسرائيليين في ترقيعه.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.