يعارضون الحرب الإقليمية ويستنفرون لخوضها
كلما طال أمد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة ازدادت علائم الغضب في الشارعين، العربي والإسلامي، وأدّت إلى زيادة وتيرة ردّ المجموعات المسلحة في العراق واليمن وسورية بضرب القوات الأميركية والإسرائيلية وضرب سفن الشحن المتّجهة إلى الكيان الإسرائيلي، أو حتى السفن الحربية الأميركية في البحر الأحمر وغيره. كما أن استمرارها قد يؤدّي إلى تغيير قواعد الاشتباك على الأرض بين حزب الله اللبناني والقوات الإسرائيلية، وبالتالي، يقود إلى اندلاع مواجهةٍ مباشرةٍ بينه وبين جيش الاحتلال، ربما يتدخّل الجانب الأميركي فيها، وهو تدخُّلٌ قد يجرّ إلى تدخّل الإيرانيين فيها أيضاً. لذلك، فإن حرباً إقليمية يقول الأميركيون، ومن في حكمهم من الحلفاء، إنهم يعارضونها، إلا أنهم يجهزون أساطيلهم الحربية من أجلها، هي حربٌ لا يوجد من يمنع اندلاعها.
تحمل أي حربٍ في داخلها عومل التصعيد التي قد تؤدّي إلى انتشارها وتخطّيها الحدود، ما دامت تتوفّر عوامل تغذيتها واستمرار نيرانها اشتعالاً. وفي حالة الحرب الإسرائيلية على غزّة، تتوفر كل عوامل ديمومتها؛ بدءاً بالقرار السياسي والأهداف الكبيرة الموضوعة لها، مروراً بالإمكانات اللوجستية المتوفّرة بجدارة للإسرائيليين، والتي يوفّرها الأميركيون حين يشارف معينها الإسرائيلي على النضوب، وصولاً إلى إرادة القتل والتعطّش للدماء ونشر الكراهية والخراب التي تبيّن أنها جزء من شخصيات أعضاء مجلس الحرب ورئيسه، بنيامين نتنياهو، وداعميه من اليمين الديني الفاشي؛ من أضراب وزيري الأمن القومي والمالية، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وغيرهما، إضافة إلى جنودهم الذين لا رادع لديهم عن ارتكاب الفظائع اليومية.
وضع نتنياهو وطاقمه الحربي أهدافاً هي من الضخامة وعدم الواقعية ما يجعلها صعبة التحقيق، وهو ما يدفع قادة هذه الحرب إلى الاستمرار فيها لتحقيق انتصارٍ، بدا كلُّ ما أنجزوه من تدمير وقتل غير مسبوق في غزّة سراب انتصارات ليس إلا. وقد بيَّنت ذلك فترة التسعة أشهر من حربهم التدميرية على غزة وما تخلّلها من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وتهجير وحصار وتجويع وتعطيش وقطع الاتصالات وتدمير المستشفيات والمدارس والجامعات ومنع دخول الأدوية والمساعدات الإنسانية إلى القطاع، التي اقترفوها بحجّة تفكيك حركة حماس والقضاء عليها واستعادة الأسرى وتغيير واقع القطاع وتحضيره ليومٍ تالٍ مختلفٍ تكون "حماس" خارجه. ومع استمرار المواجهات في غزّة، وتكبيد الإسرائيليين الخسائر عبر المقاومة والقتال المباشر وإيقاعهم في الكمائن وتفخيخ الأنفاق والمنازل المهدّمة وتفجيرها فيهم وقنص جنودهم واصطياد طائراتهم المسيّرة، يبتعد اليوم الموعود لانتصار الإسرائيليين، وبالتالي، تبدو الحرب مستمرّة، وتتواتر تصريحات الإسرائيليين بشأن إمكانية اتساعها لتشمل جبهة الشمال.
أنباء عن احتمال إلغاء واشنطن الحظر عن تسليم تل أبيب القنابل الكبيرة زنة ألفي رطل لتستخدمها في لبنان، إذا ما اندلعت مواجهة مع حزب الله
من الأسابيع الأولى للحرب على غزّة، كانت الولايات المتحدة تدعو إلى عدم توسّع الحرب لتشمل الإقليم عبر تدخل إيران وحزب الله وغيرهما فيها. لكنها، وبالتزامن مع جولات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لنشر هذه الرسالة، أرسلت واشنطن حاملتي طائرات ووحدة مشاة بحرية وأكثر من 1200 جندي إلى المنطقة، بحجّة منع توسّع الحرب، بينما الهدف الحقيقي مساندة الكيان الإسرائيلي في حربه وإدامتها والحرص على عدم حصول نقصٍ في ترسانته العسكرية والتدخّل المباشر في الحرب إذا ما حاولت دولة أو جهة ما الدفاع عن الفلسطينيين وردّ القتل عنهم. وكذلك فعل وزير الخارجية الإيراني الراحل، حسين أمير عبد اللهيان، حين قال يومها: "إذا لم ندافع اليوم عن غزة فعلينا غداً أن نواجه القنابل الفوسفورية الصهيونية في مستشفيات مدننا"، مستشرفاً إمكانية توسّع الحرب وإمكانية تدخل بلاده فيها.
اليوم وبعد الجزم أن نتنياهو لن يوقف حربه على غزّة للأسباب الموضوعية المتعلقة بتحقيق أهدافها المستحيلة، ولأهدافه الذاتية المتعلقة بسجله القانوني، يمكن لاستمرار الحرب، واستمرار تدفق السلاح الأميركي إلى تل أبيب، أن يؤدّي إلى انفلاتها من عقالها، خصوصاً مع التهديدات التي يطلقها هو أو وزير دفاعه وضباط آخرون عن نقلها إلى الشمال أو المصادقة على خططها لكبح حزب الله، وربما تنفيذ سيناريو غزة في لبنان. وإزاء هذا الوضع، كانت الولايات المتحدة سبّاقة في إرسال رسائل تحذير إلى حزب الله بعدم قدرتها على منع إسرائيل من شنّ هجوم عليه وإبلاغه تفضيلها الحل الدبلوماسي. تحذيرٌ كان مرفقاً بالتأكيد المعتاد بالتزام واشنطن بأمن تل أبيب، واستعدادها لتزويدها بالسلاح وتطعيم القبّة الحديدية بالذخيرة اللازمة منعاً لاستنزافها، إذا ما أمطر الحزب المنشآت الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالصواريخ والطائرات المسيّرة. وقد نقل المبعوث الرئاسي الأميركي من أصل إسرائيلي، عاموس هوكشتاين، الذي زار بيروت، أواخر يونيو/ حزيران الماضي، الرسائل الأميركية والإسرائيلية لحزب الله، وقيل إن الحزب بدوره وجّه رسائل مفادها استعداده لمواجهة إسرائيل وضربها إن غزَت لبنان.
تحمل أي حربٍ في داخلها عوامل التصعيد الذي قد تؤدّي إلى انتشارها وتخطّيها الحدود، ما دامت تتوفّر عوامل تغذيتها واستمرار نيرانها اشتعالاً
وبالتزامن مع هذه المستجدّات، أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات آيزنهاور والطرادات المرافقة لها، من البحر الأحمر إلى البحر المتوسّط، للاستعداد لأي تطوّراتٍ يفرضها الموقف في لبنان. وهو تطوّر تزامن مع أنباء عن احتمال إلغاء واشنطن الحظر عن تسليم تل أبيب القنابل الكبيرة زنة ألفي رطل لتستخدمها في لبنان، إذا ما اندلعت مواجهة مع حزب الله. وفي المقابل، برز إعلان كمال خرازي، مستشار المرشد الإيراني، قبل أيام، عن استعداد بلاده لتزويد حزب الله بالأسلحة إذا شنّت تل أبيب حرباً عليه. كما أن أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، تحدّث، أخيراً، عن قدرات حزبه العسكرية والبشرية، وعن إمكانية إسناده بعشرات آلاف المتطوعين من العراق واليمن. وهذا الكلام الذي يُراد به الردع، قد يكون، في الوقت نفسه، حافزاً لقادة الاحتلال وحلفائه من أجل شن حرب على لبنان، هدفها تقليم أظافر الحزب ووقف عملياته اليومية ضد الجيش الإسرائيلي والمدن الحدودية في فلسطين المحتلة، ودفعه مسافات كبيرةٍ شمال الخط الحدودي الأزرق.
إذا ما استحضرنا عمل واشنطن على التأكّد من عدم محاسبة إسرائيل على جرائمها في غزّة، وكذلك ممانعتها المتواصلة وقف الحرب التي تشنّها القوات الإسرائيلية على غزّة من تسعة أشهر، واكتفاءها بالطلب من الإسرائيليين ضرورة العمل على تجنيب المدنيين في أثناء المعارك، ما يخفي رغبتها، وربما إرادتها باستمرار الحرب، فإن رسائلها التي تقول بعدم قدرتها على منع إسرائيل من شنّ حرب على لبنان، واستعدادها لمدها بالسلاح إن حدثت المواجهة، تُعدُّ بحد ذاتها مؤشّرات على رغبة دفينة لدى واشنطن في اندلاع الحرب الإقليمية التي تتحدّث يومياً عن معارضتها لها.