تهافت السياسيّ في عملية النصيرات العسكرية
لم يترك الرئيس الأميركي، جو بايدن، لا مجالاً، ولا وقتاً، للتحليلات والتأويلات لتؤكّد تناقضاته التي ظهرت بعد عملية مُخيّم النصيرات في غزّة، التي نفّذها الجيش الإسرائيلي بمشاركة وحدة أميركية خاصّة، قبل أيام، أدّت إلى استعادة أربعة مُحتجزين إسرائيليين لدى "حماس"، وارتكاب مجزرة دموية في حقّ المدنيين في المنطقة. وقد أوقع بايدن نفسَه في تناقضٍ حين أكّد بعد العملية أنّه سيواصل العمل حتّى إطلاق جميع المُحتجزين في غزّة، ما يشير إلى أنّ عمليات عسكرية مماثلة قد يشارك فيها جيشُه، في وقتٍ أطلق فيه مبادرة للحلّ السلمي في غزّة، ما يجعل الطرف الآخر؛ "حماس"، والفصائل الأخرى، لا يثق بكلامه ولا بمبادراته. وإذ تُؤكّد عملية النصيرات مدى التناقض الذي يتناول فيه ساسة البيت الأبيض ملفّ غزّة، فإنّها تُعدّ كاشفة للسياسة الأميركية، وللنيّات الأميركية الحقيقية التي تقع خلف الجهد الدبلوماسي، وخلف كلّ نشاط أميركي في المنطقة، ومنها مرفأ غزّة العائم، ذو الأغراض الإنسانية، والذي قيل إنّه استخدم في هذه العملية.
تشير مسحة الفرح التي بدت على وجه بايدن، وهو يتحدّث عن عملية النصيرات، في الثامن من يونيو/ حزيران الجاري، وعن استعادة الرهائن، أنّه لا يكترث لما يمكن أن تُوصم به سياسة بلاده نتيجة التناقض الذي سادها. وبينما بدا أنّه لا يأبه بأرواح الضحايا المدنيين الفلسطينيين الذين استشهدوا خلال العملية، الذين وصل عددهم إلى أكثر من 270 شهيداً، وحوالي 700 جريح، بينهم أطفالٌ قتلوا من فورهم بسبب كثافة النيران الأميركية والإسرائيلية، التي أطلقتها صنوفُ الأسلحة كافّة، المشاركة في العملية، وبشكل عشوائي، بدا بايدن، أيضاً، لا يأبه حتّى بأرواح الذين قُتلوا من الطرفين، الإسرائيلي والأميركي، سواء ممّن شاركوا في العملية أو من المُحتجزين الآخرين، الذين قتلوا خلالها، وبينهم أميركيون، مقابل تحقيق انتصار هزيل يسند موقفه وموقف رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتأزّم. كما قدّم، بكلّ طيب خاطر، ما يعيد التأكيد أنّه لا يمكن الوثوق بالسياسة الأميركية، خصوصاً، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل؛ إذ يدوس الأميركيون كلّ الأولويات والمبادئ التي يَتلوْنَها على أسماعنا، صُبحاً ومساءً، إذا ما كان فيها مسٌّ بالإسرائيليين.
وإذا كان انعدام الأخلاق هو ما دفع الأميركيين إلى المشاركة اللوجستية والاستخباراتية عبر "خلية الرهائن" الأميركية العاملة في الكيان الصهيوني، في عمليةٍ عسكريةٍ جرت وقائعها وسط المدنيين، وهم على علمٍ مسبقٍ بأعداد الضحايا المدنيين الذين يمكن أن تخلّفهم بسبب الكثافة السكانية في المنطقة، فإنّ هذا يتأكّد مع التناقض الأخلاقي الذي وقعوا فيه، عبر المشاركة في عملية خُطّط لأن تعتمد اعتماداً حيوياً على مرافق الدعم الإنساني. لقد استخدم الأميركيون والإسرائيليون في تنفيذ عملية النصيرات الرصيف الأميركي العائم، الذي خصّصته الإدارة الأميركية لتوصيل المساعدات إلى أهل غزّة، كما أفاد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وكذلك، استخدموا شاحنة مساعدات إنسانية للتسلّل إلى المنطقة، كما أفادت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، علاوة على ارتداء المقاتلين في الشاحنة ثياب نازحين فلسطينيين يصطحبون قطع أثاث لخداع السكان. فبينما يُشرّع الأميركيون للإسرائيليين استهداف المشافي الفلسطينية بحجّة تمركز مقاومين فلسطينيين فيها، لا يتورّعون عن تغطية استخدام الإسرائيليين شاحنة مساعدات، والرصيف العائم، عسكرياً، وهي وقائع تُؤكّد مدى انتهاكهم لأخلاقٍ يوصّفون بها جيوشهم وسياساتهم.
عملية النصيرات قوبلت بعكس ما كان يتوقّع كلّ من نتنياهو وبايدن في الشارع الإسرائيلي
لم يقتصر تهلّل الوجه على بايدن، بل خرج نتنياهو، الباحث عن أيّ انتصارٍ مهما كان ثمنه أو شكله أو حجمه، بوجهه المتهلّل على الإعلام ليعلن العملية. وهو مشهد يُذكّر بظهوره المُتكرّر، قبل سنوات، والفرح يعلو وجهه ليعلن اتفاقية تطبيع مع هذه الدولة العربية أو تلك، في إطار اتفاقيات أبراهام. غير أن فرح نتنياهو، سرعان ما نغَّصه خروج مظاهرات أهالي الرهائن الإسرائيليين في شوارع الكيان تطالب بإبرام صفقة مع حركة حماس لإطلاق سراحهم، لأنّهم واثقون بأنّ عمليات شبيهة بعملية النصيرات لن تُبقي المُحتجزين على قيد الحياة، وفق معادلة نصّت أنّ ثمن استعادة كلّ رهينة هي حياة رهينة أخرى. لذلك، يمكن القول إنّ عملية النصيرات قوبلت بعكس ما كان يتوقّع كلّ من نتنياهو وبايدن في الشارع الإسرائيلي، باستثناء عوائل الأسرى الأربعة، وهو ما يزيد من تأزّمه ويعيد علائم الكرب إلى وجهه.
من جهة أخرى، وفيما يخصّ استخدام الرصيف العائم في العملية، سيؤدّي ذلك بحكومات، وبمتابعي الحرب على غزّة، وبالمتضامنين مع الشعب الفلسطيني من طلاب وغيرهم، ممّن يدعون يومياً ويتظاهرون مطالبين بوقف الحرب، سيؤدّي بهم إلى تصديق الفرضيات عن الغاية الحقيقية المُستترة من الرصيف الأميركي العائم قبالة غزّة، خصوصاً بعد انتشار القصّة التي تقول إنّ الشاحنة المُستخدمة في تنفيذ المجزرة قد جهّزت على الرصيف. كما يمكن أن يدفع موضوع استخدام الرصيف لغير أهدافه التي أنشئ من أجلها، المُتردّدين، وربّما المُلتحقين بالرواية الإسرائيلية والأميركية، إلى أن يتفكّروا في حيثيّات العملية، ويعيدوا التفكير في السردية السائدة في الغرب، وربّما ينقلبون عليها.
انعدام الأخلاق هو ما دفع الأميركيين إلى المشاركة اللوجستية والاستخباراتية في عملية عسكرية جرت وقائعها وسط المدنيين
تُعدُّ عملية النصيرات كاشفة؛ إذ بيّنت أنّ القادة الأميركيين والإسرائيليين قد خلعوا كلّ أقنعة الإنسانية والدبلوماسية التي كانوا يُظهرونها في الإعلام، ما يجعل سياساتهم وحربهم لا تصنّف سوى أنّها إرهابٌ سافر، تقف خلفه إدارات وحكومات إرهابية تضرب في سياق حربها على الشعب الفلسطيني كلّ المعايير التي توصي بالحذر والتفريق بين المدنيين والعسكريين في أرض المعركة، التي تنص عليها قوانين الحرب. وهو أمر يقود إلى النظر إلى هذه الحكومات وقادتها وفق التصنيف الصحيح الذي يجعلها أقرب ما تكون إلى الأنظمة الفاشيّة، التي تقف خلفها مؤسّسات، تبدأ بالبرلمان والحكومة وتمرّ بالبنية التكوينية التي تؤسّس لهذه الدول، من طغمٍ مالية واحتكارات عسكرية وأحزاب دينية يمينية مُتطرّفة، وصولاً إلى الشعب المُتماهي معها. هذا الشعب الذي وجدنا نموذجه في إسرائيليين يطالبون بإبرام صفقة لتخليص رهائنهم، بينما يعارضون، في الوقت عينه، وقف الحرب والإبادة الجماعية من أجل تدمير قطاع غزّة برمّته، والتخلّص من سكّانه، إمّا بالإبادة بمختلف أشكالها أو بالتهجير إلى الدول الأخرى.
مع كلّ يوم يمرّ تعطي حكومة الحرب الإسرائيلية دليلاً بيّناً يوفّر للقضاء الدولي ومؤسّسات الأمم المتّحدة فرصةً لاتهام دولة الكيان الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وتطهير عرقي. وبعد جرّها إلى محكمة العدل الدولية، وإصدار محكمة الجنايات الدولية مُذكّرة اعتقال في حقّ قادتها، ثمّ اعتزام الأمم المتّحدة وضعها في القائمة السوداء للدول والمنظّمات التي تقتل الأطفال، ها هي مجزرة النصيرات تُضاف إلى سجلّات جرائم إسرائيل، لأنّها واقعة يمكن أن ترتقي إلى جريمة حرب، وفق ما صرّح به الناطق باسم مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. غير أنّ اتهاماً كهذا، جعلته عملية النصيرات لا يقتصر على الإسرائيليين، بل يمكن أن يشمل الأميركيين لمشاركتهم في العملية، والذين لا ينتهكون أخلاقيات الحروب فحسب، بل يمارسون الخداع والتمييز والإرهاب، ممارسات كانت غزّة منذ البدء ضحيّتها.