"هاي أبوظبي" مجدّداً
لم تكتف وكالتا الصحافة الفرنسية (فرانس برس) والأميركية (أسوشييتد برس) ببث خبرٍ أوجزَ التقرير المثير الذي نشرته، أول من أمس، صحيفة الصنداي تايمز اللندنية، عن اتهام بريطانيةٍ وزير التسامح في الإمارات، نهيان بن مبارك آل نهيان (69 عاما)، باعتداءٍ جنسي عليها، وإنما بادرت كلٌّ منهما إلى الاتصال به، لطلب تعليقٍ منه، غير أنه، على ما ذكرتا، لم يستجب. بالضبط، كما سلك الفعلَ نفسه مع "الصنداي تايمز" التي تسلّح سبْقها الصحافي هذا بالحيادية التامة، وبالاتصال مع الوزير والطلب منه أن يردّ بما يريد بشأن ما بسطتْه الموظفة في وزارته (الأجنبية الوحيدة فيها قبل إقالتها أو استقالتها) من مزاعم اشتملت على تفاصيل وفيرة عمّا قالت إنه جرى معها، لمّا دعاها نهيان إلى فيلا في أبوظبي تخصّه، مساء يوم عيد الحب الماضي (14 فبراير/ شباط). والمرجّح أن الأخير اكتفى ببيان شركةٍ قانونية، تلقّته الصحيفة الشهيرة من الشركة نفسها، وفيه إن موكلها ينكر رواية كيتلين ماكنمارا (32 عاما)، وهو "مندهشٌ وحزينٌ" من هذه الاتهامات. وبذلك، تبقى القصة على هذا النحو، شكايةً أمام الشرطة البريطانية، يجري فيها تحقيقٌ، ثم تقاضٍ، طويل ربما. وخواتيم هذا المسار هي ما ستُفصح عن عدم صحة مزاعم الموظفة البريطانية السابقة في وزارة التسامح وبراءة الوزير، أم العكس.
ولا نملك، نحن العاملين في الصحافة، سوى الاحتراس المهني الشديد الحذر، من إسناد أيٍّ من طرفي القضية، وهذا هو المقتضى الأوجب أن يأخذه أي متحدّثٍ في القصة كلها، وإنْ ليس من الميسور أن يتناسى واحدُنا أن زوبعتها الإعلامية قد تحيل إلى غير ملفٍّ وشأنٍ فيما يتعلق بصورة الحاكمين في دولة الإمارات. ولكن فاعلين في الموضوعيْن، الثقافي والحقوقي، في بريطانيا، ومعهم القائمون على مهرجان هاي (الأدبي البريطاني) الذي تم، بالشراكة والتنسيق معه، في فبراير/ شباط الماضي، إطلاق الدورة الأولى لمهرجان هاي أبوظبي، برعاية وزارة التسامح الإماراتية وإشرافها، لم يكترثوا بالاحتراس والحذر اللذيْن نُلزم، نحن الصحفيين، أنفسنا بهما، بل سارعوا إلى إشهار تضامنهم مع كيتلين، ومساندتهم لها، وهي التي كانت من المسؤولين عن تنسيق أعمال المهرجان الذي استضيف فيه 80 كاتبا من العالم، أحدهم أدونيس (تم تعريفه في الموقع الإلكتروني للمهرجان بأنه أعظم شاعر عربي حي)، وأقيم له في الأثناء حفل تكريمي بمناسبة عيد ميلاده التسعين.
ولمّا كان من الأسس، أقلّه المعلنة، للمهرجان البريطاني، دعم حرية التعبير وتمكين المرأة، ولمّا كانت انتهاكات حقوق الإنسان في دولة الإمارات مروّعة، لم يكن مستغربا أن يُباغِت منظمي "هاي أبوظبي"، عشية إطلاقه، خطابٌ من مدعووين إليه (ليس بينهم أدونيس)، ومن منظماتٍ حقوقيةٍ نشطة، ينتقد صمت وزارة التسامح عن اعتقال عشراتٍ في سجون الإمارات بسبب "تعبيرهم الحر عن آرائهم"، ويأتي على تعذيبٍ شنيعٍ في هذه السجون. وكانت شجاعةً غير منسيةٍ من الروائية المصرية، أهداف سويف، ما قالته في كلمتها في المهرجان، عن هذا. والبادي مما أفضت به المنسّقة السابقة في المهرجان، والمشتكية على نهيان، لـ"الصنداي تايمز"، أن ظلالا لقضية حقوق الإنسان كانت ظاهرةً في ترتيبات التحضير لأنشطة المهرجان، وقد قالت هي نفسُها، إذا صدقت، إنها تحدّثت إلى الوزير، في أجواء الاعتداء الجنسي المزعوم، عن اعتقال الناشط الإماراتي أحمد منصور، فردّ عليها إن منصور سيبقى في الحبس لأنه من الإخوان المسلمين (!). والجديد هنا أن الذي أشهرته هذه المرأة أثار مثقفين وإعلاميين بريطانيين، بادروا إلى إعلان غضبهم، أساسا، من مشاركة مهرجان هاي (البريطاني) في تنظيم مهرجانٍ مشابهٍ في الإمارات، البلد ذي السجل الفقير في الحريات المدنية، على ما كتب أمس دومينيك كينيدي في صحيفة التايمز التي نقلت عن كاتب قصص أطفال إنه يأمل أن تكون حادثة كيتلين نهايةً لدور مجتمع الكتاب البريطانيين في تبييض سمعة نظام الإمارات (وصفه بأنه حقير). كما سأل صحافي: لماذا نظّم المهرجان بعد هذا الهجوم البشع؟
.. لا ينتظر هؤلاء، إذن، نهاية التحقيقات الجارية في شكاية كيتلين، كما زملاؤها في مهرجان هاي الذي قالت رئيسته، كارولين ميشيل، إنهم لن يعودوا إلى أبوظبي، ما دام نهيان في منصبه، وإنهم ملتزمون بدعم زميلتهم في التماس الإجراءات القانونية، فما حدث لها كان "انتهاكا مروّعا، وإساءةً مزعزعة للثقة والموقف" .. والقول عندنا، نحن أهل الصحافة، ليس هذا ولا مثله، وإنما انتظار أن يحصحص الحق.