مومياوات الهوية
كان موكب المومياوات المصرية، هذا الأسبوع، حدثا كبيرا، دارت حوله نقاشات مختلفة، أبرزها النقاش السياسي، عن المنجز والأولويات، وهو نقاش جاد، مهما اختلف أطرافه وتصارعوا، ولا مجال فيه للتخوين الوطني، إنما هو نقاش التقدير السياسي، من ناحية، وأهمية مشاعر الناس، وأخذها في الاعتبار، من الناحية نفسها، لا من ناحية أخرى، نقاش أصحاب المصالح المشتركة في هذا الوطن، وهو حق لكل من شاركوا فيه، ما لم يتغوّلوا على حقوق الآخرين وآرائهم. على هامشه دار نقاش ديني، هوياتي، افتعله مدوّنون ويوتيوبر "التريند الإسلامي" عن "هوية مصر" الإسلامية، باعتبارها في خطر، في محاولةٍ لتنغيص الحدث، والمزايدة على منجز المصري القديم الذي نحته في الصخر، بمنجز آخر، تاريخي أيضا، حيث لا منجز لشخوص المزايدين سوى قدرتهم على تحويل الماء والهواء إلى أسبابٍ لإشعال صراع وحشد أنصار.
كان سؤال الهوية جزءا من جدالات طويلة بين المثقفين العرب في القرنين الماضيين، اتكأ بعض معارضي الدولة العثمانية، من العرب، على عروبتهم، بوصفها مبرّرا لانتزاع الحكم من العثمانيين. وطالب عبد الرحمن الكواكبي بخلافة عربية، وذهب آخرون إلى الاحتماء بالهوية الإسلامية، لدعم العثمانيين. وتجاوز الحوار الهوياتي سؤال السياسة إلى الثقافة، وطالب أحمد لطفي السيد، صاحب الولاءات الإسلامية الأولى، بهويةٍ مصريةٍ محلية، وافقه طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وناطحهما ساطع الحصري ورفاقه بحثا عن هوية قومية عربية... إلخ. في ثمانينات القرن الماضي، جاء جيل جديد من القوميين والإسلاميين، بحث السؤال من وجه آخر، ألف عصمت سيف الدولة، المفكر القومي المصري كتابه "عن العروبة والإسلام"، وفيه رأى أن الدولة القومية نتاج الحضارة الإسلامية، وأنه لا تعارض بينهما، تابعه المفكر الإسلامي محمد عمارة في عدة كتب منها "الإسلام والعروبة" و"التيار القومي الإسلامي". وتوسع عمارة لينفي التعارض بين مفاهيم الوطنية والإسلام، انتماء وهوية، واشتبك آخرون، كان أهمهم، في مصر، طارق البشري، وطرحه الذكي عن دوائر الهوية المتقاطعة، والمتحاضنة، والتي لا ينفي وجود إحداها الأخرى، يسعك أن تكون وطنيا، وعروبيته ومتدينا في آن. ويسعك، مع ذلك كله، أن تنتمي إلى الدائرة الإنسانية الأوسع. الأمر كله في الترتيب، والنسب، والأوزان، تفاوت أحجام أقطار الدوائر.
عاد السؤال، ولكن ليس على هيئة سؤال، ولا على يد مثقفين. عاد على هيئة لغم، يفجّره مهاويس وموتورون، حملتهم سياسات الأنظمة على أجنحة الذيوع الإلكتروني، وصدّرتهم إلى قطاع من خصومها، ومنافسيها، لتسمّم بهم وبأفكارهم مفاهيم التغيير والحريات والديمقراطية والمواطنة، وتجد لنفسها، أي الأنظمة، مبرّرا معقولا للبقاء. يقوم خطاب الهوية الإسلامية الجديد، والذي يطرح نفسه في كل مناسبة، على وضع الإسلام في مواجهة كل شيء، خصما وضدا وعدوا، وكأنه لم يأت لإصلاح الدنيا، بل لمحاربتها، وتحويلها كلها، بكل تفاصيلها، إلى مادة كُفرية. الوطنية، والعروبية، والحضارات القديمة، والأفكار الحديثة، كلها محض جاهليات وكبريات، ولا بأس من استدعاء نصوص، آيات وأحاديث، كانت، في سياقها، تقاوم العنصرية والطبقية والعصبية القبلية، وإسقاطها، في عشوائيةٍ مذهلة، على معان مثل الانتماء للوطن، والاعتزاز بتاريخه وحضارته، وهي معانٍ تتقاطع مع الإسلام وسيرة نبيه الذي أحب مكة، وطنه، وقريته، وكانت أحب إليه من سواها. هنا يمكنك أن ترصد حجم التجاوب مع تغريدات دعاة أسلمة الهمجية ومقاطعهم، وتفهم ما معنى فشل الثورات العربية وأحلام التغيير.
استفاد الإسلام من حضارات الأمم التي دخلها، وانحاز لها، وحافظ عليها، وترجم كتبها، وفلسفاتها، واشتبك معها، وأدخل بعضها في صلب علومه وفنونه، (المنطق اليوناني في أصول الفقه نموذجا). وحوْل هذه العلوم، غير العربية، وغير الإسلامية، نشأت علومٌ عربيةٌ وإسلامية. وشارك الجميع، العرب وغيرهم، في بنائها، وما الحضارة الإسلامية إلا قدرة الإسلام على بث روحه في "مومياوات" الحضارات السابقة لتعود خلقا جديدا، ولولاه لما عرفنا حضارات اليونان والفرس والمصريين والفينيقيين، ولو كانت مفاهيم الهوية، لدى أجدادنا، بهذا التصلب والهوس، ما استوعبت ذلك كله، ولكنه "التريند".