مواربةُ اليمين الغربي القاصي
لم يرحم الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية ألمانيا، الدولة الغربية، بقصفهم الشاملِ المدنَ وتدميرِهم البنيةَ التحتية بلا رحمة أو بترك الولاياتِ المتحدة السوفييتَ المدفوعين برغبة انتقام متوحّشة باحتلال برلين أولاً واستباحة المدنيين. لم ينبع هذا من "المركزية الغربية" في التعامل مع العالم، بل المصالحِ والاستراتيجيات الخاصة.
مع ذلك، أولُ اتهام للنظرة الغربية إلى العالم أنها مركزية وعنصرية. ليس تخصيصُ الاتهام صحيحاً جملةً. من الناحية النظرية، الإنسان مدفوع بمركزية ذاته إن كان له ما يميّزه أو إذا ظنّ تميّزه. هناك شعوبٌ فاشلةٌ تجد نفسها مركزَ العالم، وتتعالى عن جوارها والعالمين، متوهمةً فضلَها. أما عملياً، فتشهد المراكز الغربية الرئيسة معركةً دؤوبة منذ منتصف القرن العشرين تقريبا ضد المركزية. حقّقت التياراتُ الغربية الرافضةُ عقيدةَ التفوّق نجاحاتٍ حاسمةً في مكافحة العنصرية العرقية والدينية ومواجهة التمييز الجنسي والنوعي، وبدرجات أقل التمييزِ الطبقي. في المقابل، تشنّ قوى أخرى هجماتٍ مضادّة. اليمين القاصي واليمين الشعبوي في الغرب هو الممثل الراهن لفكرة التفوّق والمدافعُ الرئيس عنها. يكافح مصرّاً في حربه. وضْع يحفز الخشية الهائلة، ليس على مستقبل أرضٍ بعينها بل الأرض. نتحدّث عن منظومة غربية هي صاحبة الأثر الأبرز في سياسات العالم واقتصاده وثقافاته المعاصرة.
في هذا الإطار، عندما نسمع أن بعض الحكومات الغربية تتصرّف بازدواجية تجاه مسائل الشرق الأوسط، فهذا ليس بالضرورة نظرة استعلاء الرجل الأبيض والمرأة البيضاء. فما صلة نظرة كهذه بقادة مثل باراك أوباما وريشي سوناك؟ تفسيرُ الأمور بهذا النحو ليس خطأ منهجياً في الفهم فحسب، بل خطأٌ يؤدّي إلى جهل في طريقة التعاطي مع السياسات العالمية وخلفياتها، وبالتالي، يكرّس إدمان السياسي والثقافي في التعاطي مع العالم.
لم يبدِ أكثر الغرب، في بادئ الأمر، اهتماماً إنسانياً عالياً بالحرب في غزّة. اكتفى بالاستناد إلى أنها حربٌ على الإرهاب
هناك مجموعة عناصر تلعب، في آن واحد، أدواراً متوازية في الخطابات الغربية. قد تتوافق مع بعضها في قضية ما، مثل الحرب الروسية الأوكرانية. هي متناغمة. المصالحُ والأسبابُ الإنسانية والخشيةُ التاريخية من روسيا والدفاعُ عن الديمقراطية والقربُ الجغرافي والتشابه اللوني، على سبيل المثال، صبّتْ في اتجاه واحد، دعم كييف في مواجهة موسكو. هنا، عندما ظهر عنصر معاكِس (قضية الغاز والنفط) ظهر إرباكٌ في الإجماع الغربي. لم يقتصر هذا على هنغاريا التي اختارت مسارا مختلفا نسبيا عن جاراتها، بل لاح حتى في مواقف دول أوروبا الغربية. حين تتناشز العناصر مع بعضها، يطفو ارتباكٌ حقيقي. هذا تحديداً ما نلتقطه في مسائل ذات صلة بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. ففي الحرب السورية، مثلا، كانت كل التوجّهات تقريباً متوافقة، لكنها خضعت، لاحقاً، لتناقضات ما أدّى إلى تراجع زخم دعم الثورة ضد بشّار الأسد.
تبدو حالة الارتباك، في قضية غزّة، أوضح. ليست المسألة أن الأبيض متعالٍ، كما تستعجل كثير من التحليلات مستسهِلةِ الفهم. والاعتقاد أن الدوافع الإنسانية وحدها تحفز السياسة الغربية ساذج لا صلة له بمسارات الحروب القارّية والعالمية القريبة والبعيدة. هناك دوافع مختلفة، بعضها متصل بالمصالح، أو ذو علاقة بالثقافة، أخرى معنيّة بالأوضاع الداخلية للبلدان الغربية، وهناك بالتأكيد جوانب إنسانية. هذا ليس غربيا فقط. لننظر إلى الاهتمام الإسلامي بمسألة السودان الذي يحترق ويموت آلافٌ من أبنائه وبناته المدنيين وغيرهم في حرب النفوذ والسلطة. هل تحظى بالاهتمام شرق أوسطياً؟ قياسا بأخريات، يصل الاعتناء أحيانا إلى صفر. ليس لأن الناس تريد أن يموت السودانيون، لا طبعا. دوافع الاهتمام أقلّ بكثير مما تبدو عليه حالات أقرب جغرافياً أو سياسياً أو أيديولوجياً.
لم يبدِ أكثر الغرب، في بادئ الأمر، اهتماماً إنسانياً عالياً بالحرب في غزّة. اكتفى بالاستناد إلى أنها حربٌ على الإرهاب. هي قراءة وفق أدبياته السياسية. نظر إليها بالضبط مثلما نظر هو وأكثر العراقيين وقليل من الناطقين العربية إلى الحرب في الموصل على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لم يتوقف كثيراً عند حقيقة أن المدينة تتهدّم وأن مدنيين يُقتلون. بالنهاية، العنوان العريض كان متفقاً عليه. إنه ضرورة القضاء على "داعش" الذي احتلّ ثلث العراق وربع سورية. سيأتي هنا من يقول إن حركة حماس ليست كتنظيم أبو بكر البغدادي، متناسياً أن النظرة النمطية الغربية مختلفة عن رؤى أخرى في مناطق ثانية.
لا أحد يسمح بتحول حربٍ في مكان بالعالم إلى انقسام داخلي حادّ، وإلى عودةِ ظهور معاداة السامية المدمّرة تاريخيا
من ثمّ، بعد أن بدأت المسألة تتكشف، وتبيّن أن الضحايا الأطفال وعموم المدنيين كثيرون أو أكثرية، تناشزت العناصر المكوِّنةُ الموقفَ الغربي. هناك حقوق الإنسان وقوانين الحرب. ومن جانب آخر، هناك الدفاع عن إسرائيل دولةً لها حقّ الوجود، من جانب ثالث المصالح مع المحيط العربي؛ أيضا تبرُز مسألة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى لم تقم بما فيه الكفاية لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني جذرياً، ما أجّج نزعة تطرّف من الطرفين. من ثم، تظهر في المقدّمة ثنائيةُ معاداةِ السامية والإسلاموفوبيا داخل البلدان الغربية. إنها جوهرية في بلورة التوجه العام. فلا أحد يسمح بتحول حربٍ في مكان بالعالم إلى انقسام داخلي حادّ، وإلى عودةِ ظهور معاداة السامية المدمّرة تاريخيا. إنها ليست مزحة أو تهويلاً كما قد يُهيأ لكثيرين، بل حقيقيةٌ خطيرة. يمكن التشكيك في الطريقة أو الآلية أو في خلط الأوراق غربيا، لكن ليس حصيفاً الارتياب من خطورة معاداة السامية وجدّيتها. هذا الخوف، يستفيد منه الخطاب الحكومي الإسرائيلي بالتأكيد، عبر توظيفِه في غير محلّه. قابلية توظيفِه خطأً متأتيةٌ من كونه حقيقيا. إنها ليست فحسب مخاوف من الجاليات العربية أو المسلمة، كما يحاول اليمين القاصي والشعبوي تصويرَها، إنما مِن هذا اليمين نفسه أيضا.
في كلمة نائب المستشار الألماني، روبرت هابيك، بعد اندلاع الحرب في قطاع غزّة، نجد أوضح تعبير عن الخشية. "لا ينبغي أن تُنسينا معاداة السامية الإسلامية أن هناك معاداة للسامية أصيلة في ألمانيا، حتى لو كان اليمينيون المتطرّفون يضبطون أنفسهم حاليا، لأسبابٍ تكتيكيةٍ صرف كي يواصلوا تحريضهم ضد المسلمين". الكلام، بصرف النظر عن الجدل عن حدود الحريات والخلط بين معاداة السامية ومعاداة العنف، يعبر عن جوهر ما تخشاه أوروبا. أراد في كلمته، ضمناً، تحذير المسلمين في ألمانيا من خطر أنهم متقاربون مع خصمهم المتطرّف الذي يسعى إلى اجتثاثهم. المسار الدقيق والمعقد تعيشه الأدبيات السياسية الأوروبية. هناك مجموعة أخطار متداخلة، بعضُها نتيجة أخطاء غربية وبعضها نتيجة أمور أخرى. في النهاية، ليس كل اليمين، بل صريح العنصرية والتطرّف أحد أكبر الهموم، وهو همّ للجاليات المهاجرة أيضا.
يخفي التطرّف اليميني نوازعه المعادية السامية موارباً وراء نزعته العلنية المعادية المهاجرين
يخفي التطرّف اليميني نوازعه المعادية السامية موارباً وراء نزعته العلنية المعادية المهاجرين. تناسب الظروف الراهنة بعض أوساطه. في أحد الوجوه، تصاعدتْ حدّة الحساسية مِن المسلمين، بسبب شعارات مثل "من النهر إلى البحر" أو محاولة صريحي التطرّف الإسلامي توظيف الاحتجاجات، أو بسبب الخوف الذي يسود مجتمعاتٍ يهودية في بلدان مثل بريطانيا على خلفية تهديدات جدّية. في وجه آخر، ظهرت حالة غضبٍ جديدة في أوساط جاليات مسلمة من النظم السياسية الغربية. يعيد هذا عداء اليهود أوروبياً إلى الواجهة ويعزّز الإسلاموفوبيا. ليس الأمر تخطيطاً، إنما استفادةٌ من المعطيات القائمة أيديولوجياً لتحقيق مكاسب. بالتأكيد، لا مشكلة لدى اليمين شديد التطرّف مع إسرائيل نفسها، إنما هناك معضلة التعالي على اليهود الموجودين في الغرب، واتهامهم بكل كارثةٍ تحلّ، بما في ذلك الجائحة. كما لا مشكلة من حيث المبدأ في بناء علاقات مع أكثر الأنظمة العربية. لا صلة للدوافع بالسياسة الخارجية، بل بالأوضاع الداخلية.
يأتي هنا إيلون ماسك، الملياردير وصاحب منصة X. هو، بصراحته المعهودة، يعبّر عما لا يقال في دوائره المتطرّفة. يقوم منذ مدة بحملة تدريجية ضد ما يسميها "العنصرية ضد البيض". لهذا خاض معركة "تغريدية" مع رئيس الوزراء الاسكتلندي، حمزة يوسف، واصفا إيّاه بأنه عنصري بسبب تعليق الأخير بأنه كان غير الأبيض الوحيد الحاضر في اجتماع ما. ثم وجّه ماسك بوصلة محاربة العنصرية ضد البيض نحو اليهود. فرِح مسلمون بتصريحات ماسك أو سلوكياته على "تويتر" التي عدّوها مناصرة لغزّة وضد إسرائيل. في الحقيقة، لم تكن ضد إسرائيل، بل ضد اليهود. عنوْنَ انتقادَه إلى رابطة مكافحة التشهير الأميركية اليهودية ADL، متهماً إياها بمهاجمة الغالبيةِ الغربية الداعمة إسرائيل واليهود، بينما تصمتُ عن الأقليات التي تشكّل تهديدا لهم (يقصد المسلمين). لكن بعض من قصد عَلا السرورُ محيّا بعضِهم من كلامه من دون إدراك غاياته. يخفي ما عناه رغبةَ المتعصبين في اندلاع مشكلة غربية بين اليهود والأقليات الدينية الأخرى، تحديداً المسلمين. ففي حين تحاول غالبية الأنظمة الغربية، خصوصا البريطانية والألمانية والفرنسية، وبالطبع الأميركية، الحيلولةَ دون اندلاع نزاع يهدّد السلم بسبب معاداة السامية والإسلاموفوبيا، يعمل التطرّف على إذكائه. لأنه خصم للاثنين، أيّ منهما يخسر فهو رابح، وأيّ منهما يكون في دائرة الغضب فهو رابح.