مها جديد .. سوريةٌ بحجم مشروع ومساحة حلم

11 ديسمبر 2020
+ الخط -

اعتدنا، نحن السوريين، بعد سنوات من الجحيم والموت الجماعي، على إعلانات الموت وتلقف عبارات النعي وتقديم العزاء، خصوصاً في الفضاء الأزرق، المفتوح على آفاق الدنيا، وكم يضيق بنا مثلما ضاق فضاء أحلامنا، وتقلّصت مساحة عيشنا حتى اقتربت من مساحة قبرٍ يحمله السوري على كاهله، ويمشي هائمًا بلا طموح ولا مشروع سوى رغيف الخبز.

هل للموت تاريخ؟ هل يمكن رصد بدايته والتنبؤ بنهايته؟ يبدو أن للحالة السورية فرادتها، وفضلها في إعادة طرح الأسئلة وتعديل المفاهيم، فعشر سنواتٍ كافية لإعلان الموت، والتنبيه إلى أن شعبًا بكامله كان في حالة احتضار، لكنه انتفض في لحظة إدراكه موته، وقد يكون إدراكه معنى الحياة، فهبّ عازمًا على امتلاكها كحق مضى زمن استلابه.

ولأن الحياة في سورية صارت إلى ما هي عليه، حياة تُغيّب الوعي ويبقى الشرط الأساسي لها الحصول على لقمة الخبز، يفاجئنا الموت أحيانًا بومضةٍ باهرةٍ تكشف ما هو أعمق، ما يختبئ تحت سطح البؤس والبلادة، ما ينتظر أن يتم إحياؤه والاشتغال عليه لضرورته في الإبقاء على الحياة ووعدها في المستقبل، إنه المساحة الإنسانية التي تجمعنا وتمنحنا الهوية الأولى التي منها يجب أن تتشكّل الملامح الأخرى والقيم الأخرى، وتتحقق الأحلام المؤجّلة، أحلام أن يكون للفرد وطنٌ ينتمي إليه، وأفراد مثله يرى نفسه فيهم ويرون أنفسهم فيه، وهم إذا ما تلاقوا فوق هذه الأرض الخبيئة التي تكتنز بذور البناء الإنساني، فإنهم باجتماعهم سوف يبنون الغد. 

مها جديد: "ما هو الحيز الذي سيتبقى لنا بعد انتصار الثورة؟ إذا لم نتصدَّ حتى الآن لأحقيتنا بتكوين تيارٍ ما زال يؤمن بالعقل والتقدم والإنسان وبالعدالة الاجتماعية؟"

سيدة سورية تعلن عن نفسها في موتها، فيكشف موتها كم كانت شاهقةً وباذخة الأحلام والعطاء. اجتمع السوريون، على اختلاف مواقفهم وتوجهاتهم وأطيافهم وأحزابهم وانتماءاتهم وأماكن وجودهم، بين وطن وظلّه البعيد على محبتها وتقديرها وبكائها في رحيلها المفاجئ، إنها المرأة صاحبة الابتسامة العذبة الدافئة بوجهها الجميل المتعالي على المساحيق ومواربة خربشات الزمن، مها جديد، المهندسة المختصة في المعلوماتية.

لم أعرف مها، ولم ألتقِ بها قبل رحيلها الموجع، على الرغم من معرفتي بكثيرين من أفراد عائلتها الكبيرة، العائلة التي عرف عن أفرادها انشغالهم بالهمّ العام وخوض عديدين من رجالها غمار السياسة، هل يكفي الاستشهاد باثنين من أخوالها؟ غسان جديد وصلاح جديد؟ قد تكون الأسماء كافية، إنما للدلالة على أن قيمة أن يكون للإنسان قضية يهبها وقته وعلمه وجهوده ووقته وفكره يشكّل أحد ملامح هذه العائلة. وكانت لمها قضيتها الشاملة الواسعة السامية، قضية الإنسان. كيف يُبنى الإنسان لضمان أجيالٍ تبني وطن المستقبل على أنقاض الدمار المريع المهين الذي عمّ سورية بأرجائها؟

اختارت مها أن تستثمر في الإنسان، بما يليق بقيمته الروحية والمعرفية والجسدية والمعنوية، في وقت جنح كثيرون من مثقفينا ونخبنا إلى الاستثمار في الحرب بطريقة أو بأخرى، عن طريق خطاباتٍ تستبطن ما يثير الفتنة، ويؤجّج الصدور بين مكونات الشعب، خطابات لم تعلُ أو تترفّع عن السياسة الموحلة التي أغرقت البلاد في مستنقعٍ موبوء، وأظنها خمّنت باكرًا، وعرفت بعقلها التحليلي، أن الرهان على المستقبل يكون بالبناء، وأول البناء بناء الإنسان. قال عنها من عرفوها إنها كانت تعمل بطاقة مؤسّسةٍ لا فرد، وإنها كانت صاحبة مشروع طامح يعلو فوق الانتماءات وزوايا النظر الضيقة والبصائر المعتّمة، ويقاوم كي يبقى حيًّا كل أشكال الملاحقة والتضييق والحصار، تعالت على خيباتها وجروحها، وكرّست وقتها وجهدها وحبّها أطفالا وأسرا خلعتهم الحرب من حيواتهم، ورمتهم للريح، النازحين الهاربين من جحيم الحرب في الشمال السوري. راحت تعمل وتنسج شبكة التواصل والدعم الإنساني، معتمدة على وعيها بالدرجة الأولى، وقدرتها على استثمار الجنوح نحو الخير عند البشر، أولئك الذين يبلعون الشفرة بحدودها الكثيرة الجارحة، ويبلعون نزيفهم وهم صامتون، استنهضت الجنوح نحو الخير في صدورهم وبنت مشروعها، فكانت تستخلص الوعود والأفعال من الأطباء لمعاينة المرضى وتقديم الخدمات الصحية، وصيادلة من أجل الدواء، والفرق الناشطة في المجتمع بالعمل الخيري لتأمين ما يلزم أولئك الأطفال وأسرهم، عملت صفوفًا وعلّمت الأطفال مهاراتٍ كثيرة، رفّهت عنهم، قدّمت لهم بعضًا من الفرح، لتحرق صور الحرب والقتل والعنف العالقة في ذاكرتهم. 

اختارت مها أن تستثمر في الإنسان، بما يليق بقيمته الروحية والمعرفية والجسدية والمعنوية

كانت مها أكبر من هوية ضيقة، وكان يؤلمها أن يًشار إليها بوصفها ابنة الطائفة الفلانيّة: "يجبروننا على ممارسة التقية الفكرية منذ الآن عندما ننتقد أي شخصٍ يخص الحراك، والمصيبة الكبيرة عندما لا يرونك إلّا من خلال انتمائك الطائفي، لو تعرف عدد العلمانيين واليساريين الذين قدّموا هذه الأضحية". وصرخت باكرًا "كنت وسأبقى متشبثة بمواطنتي السورية الجامعة". هذا ما نشره الباحث باسيليوس زينو على صفحته من مراسلاتٍ بينهما، وقالت أيضًا: "ما هو الحيز الذي سيتبقى لنا بعد انتصار الثورة؟ إذا لم نتصدَّ حتى الآن لأحقيتنا بتكوين تيارٍ ما زال يؤمن بالعقل والتقدم والإنسان وبالعدالة الاجتماعية. كانت فجيعتي كبيرة بالكثير من الأصدقاء الذين يحكمهم الثأر فقط". قيل في رثائها الكثير، فها هي إيمان شاكر تستذكر زوجها الراحل المفكر صادق جلال العظم، تُخاطب روحه وتعزيه بفقدان قامة إنسانية "من الصعوبة أن تتصادف مع أناسٍ بنقاء من لم لا يمكن أن تعشّش في زاوية من زواياه لوثة الادّعاء". أمّا الكاتب راتب شعبو فحكى عنها: "تأتي كصاحبة همّ، كأن هؤلاء المنكوبين هم عائلتها، تأتي وقد تركت وراءها كل هموم النساء، تأتي بشعر يتخلله الشيب، ووجه لم يعرف سوى الماء، وقلب مليء بالحب، هي لا تتعاطف مع المنكوبين، بل تعيش نكبتهم". وكتب الشاعر منذر مصري: "لطالما شعرت أن وجودك بيننا لا يصدّق، بل أقرب إلى المستحيل. العطاء الذي لا يعرف شرطًا ولا يأسًا، ولكن بتمييز! تمييز واضح للفقراء والمشردين والمعذّبين".

للمصادفات أحيانًا حمولة من المشاعر المضلّلة، فما معنى أن تغيب سيدةٌ باذخة الروح، مبسوطة الكف والقلب، لتمنح المقهورين دفقة حبّ تداوي جراح قلوبهم في يومٍ مرصود للاحتفاء بالعمل التطوّعي عالميًّا، في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول؟ هل الاحتفاء يكون بإيقاف قلبٍ يفيض كالينبوع عن تدفقه، ويحرم العطاش من عذوبة مائه؟ أي عبرةٍ يمكن أن يستقيها كل ذي ضمير متوهج، وعقلٍ منشغلٍ بالبحث عن الحقيقة؟ 

كأنها مرّت في ليل سورية البهيم كومضة برق، وأرعدت الحياة بانطفائها، كانت وحدها بحجم مشروع

الحزن الذي اجتمعت عليه قلوب السوريين في رحيلها، على الرغم من تباين مواقفهم وآرائهم، وقد استولد مشاعر آخرين، لم يكونوا قد سمعوا بها، فانضمّوا إلى مجموعة الراثين، وحده دليل دامغ على حاجتنا، نحن السوريين، إلى قلوب وضمائر وعقول تشتغل في هذه البقعة، تشتغل على حماية الإنسان فينا، وعلى احتضان أجيال الغد وبنائهم على مبادئ الخير والمحبة أولًا، ثم بناء عقولهم الجدلية القادرة على طرح الأسئلة، متحرّرين من الثقافة المفروضة والمعرفة وفق أنساق محدّدة، بناء أرواحهم متعاليةً على الجراحات، محلقّة بعيدًا عن أقفاص الماضي، أن نعلّمهم أن الحياة تسكن في الغد وليس في الماضي، وأن التاريخ ليس مقدّسًا، بل هو حكاياتٌ وتواريخ وأحداثٌ ليس المنتصر فقط من يدوّنها، بل أيضًا المزوّر والمضلّل وصاحب المشاريع المستقبلية المريبة، من المفيد تشريحه للوصول إلى روحه والإمساك بالحقيقة المغيّبة، علّها تفيد في تحرير العقول من الامتثال إلى مسلّماتٍ وبديهياتٍ تستثمر بها أنظمة الطغيان المتعدد. لا يمكن الإشاحة بالبصر عن حالاتٍ عديدة، تشتغل في الظلّ وبقلب أبيض، كحالة مها في سورية، على الرغم من التعتيم عليها، أو بالحد الأدنى عدم الاكتراث بها، لكن الاحتفاء بالمفاهيم والقيم والمشاريع المستقبلية بالنسبة للعالم والمنظمات التي تحدّد التواريخ وترسم المناسبات، لا يعنيها أن القلوب الخيّرة والأيادي البيضاء كثيرة في سورية، تعمل طوعيًّا لوجه الحقيقة والإنسان والوطن، مثل المنارة التي انكفأت مها جديد. 

نعم، توقف قلب السيدة الاستثنائية في لحظة، وكأنها مرّت في ليل سورية البهيم كومضة برق، وأرعدت الحياة بانطفائها، السيدة التي كانت وحدها بحجم مشروع ومساحة حلم بوطن.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن