من ضرب هاني شاكر وهو صغير؟
ثمّة فنون رديئة، قبيحة، منحطّة، وربما خطيرة، هذا طبيعي، ومتكرّر. الفنون العظيمة، عبر التاريخ، هي الاستثناء، وما سواها محاولاتٌ للوصول إليها، أو للتمرّد عليها، والدوران العكسي في فلكها، بهدف الاختلاف، أو الشهرة السريعة. الفنانون، أصحاب التجارب، يعرفون ذلك، ويفهمونه، بل ويستفيدون منه، فالرديء يميّز الجيد، والقبيح يميز الجميل، وبضدها تتمايز الأشياء، بشرط: وجود الجيد والجميل أصلا! كان هاني شاكر، المطرب، وليس رئيس أركان حرب المزّيكا، امتدادا لـ "أغنية" عبد الحليم حافظ. ظهر هو وأغلب جيله على "حسّ حليم"، ولولاه ما ظهروا، غيّر حليم قواعد اللعبة.. الذوق.. حجز مكانا لآخرين غير المطربين "العفيقة"، وانتزع حقّ المطرب صاحب الإمكانات المحدودة، في أن يغني لونه. ليس عيبا أن تكون فرعا عن حليم، حليم نفسُه كان فرعا عن محمد عبد الوهاب، لكنه نال مكانة عبد الوهاب، الجماهيرية، في زمانه، ونافس أم كلثوم، رغم الفارق المرعب في الإمكانات. فعلها بذكائه، ورؤيته، وقدرته على التحرّك الواعي مع المتغيرات.. باختياراته، شديدة الفرادة، في الكلمة واللحن، ومراقبته الدائمة، والقلقة، والعصابية، أحيانا، السوق وتغيراته، ومزاج الناس، وتقلباته، ناهيك عن "شطارته" اجتماعيا وسياسيا. ولذلك كان حليم نجم عصره، قدّم لنفسه، وقدّم للأغنية ولأجيالها من بعده، ولم يزل، فماذا قدّم هاني شاكر لنفسه أو للأغنية أو لمن جاؤوا بعده؟
ظهر هاني بوصفه منافسا لحليم، وحاول، إعلاميا، إعادة إنتاج معركة حليم مع فريد الأطرش، كان حليم، هذه المرّة، هو العجوز، في مواجهة شاكر الشاب "الحليوة"، سرعان ما استوعبه حليم وبلعه. مات عبد الحليم، فهل عاش هاني شاكر وجيلُه؟ لم يكن لدى هاني شيء ليقدّمه سوى أنه مجرّد منافس شاب، لم يكن لديه في شبابه سوى شبابه. ظهر جيل حميد الشاعري ورفاقه، وأكلوا الجو، قدّموا لونا، ذاع وشاع، وصار المتن، أيًا كان تقييمنا له، والآخرين هوامش. تحرّك هاني مع السوق، لم يقاوم انتصارا لذائقته، ولم يستطع مجاراة الذائقة الجديدة، رقص، مثل مطربي المهرجانات، ليس على المسرح، ولكن على السلّم "الموسيقي"، أغنيات من روح حليم، وأخرى من عضلات عمرو دياب، كلمات، بلا هوية، بعضها صالح للغناء، والآخر معالجات، أكثر ركاكةً من كلمات المهرجانات، لتراث العديد "والولولة" و"الشلشلة"، بلا لون، بلا طعم، بلا نكهة، بلا شخصية. تحرّك هاني، طوال الوقت، تحت سلطة غيره الغنائية، وفق تعليمات الرائج، وتوجيهات المؤثر، وإكراهات "اللي يجيب فلوس". والآن، ربما لأول مرة، هاني شاكر صاحب سلطة، يمكنه أن يضرب من ضربوه، صغيرا، ولكنهم كبروا، إلى الحد الذي يتجاوز سلطته، فلا بأس من ضرب أضرابهم.
يتساءل هاني شاكر، مستنكرا: هل وظيفة النقابة هي تقديم الخدمات والمعاشات فقط؟ لا طبعا، وظيفتها هي منع ما يراه النقيب قبيحا لصالح ما يراه النقيب جميلا. ولكن أين هو الجميل؟ وهل وجود "الفن الجميل"، وفق رؤية شاكر، يحتاج قرارات سلطوية لتحجيم القبيح؟ الجميل يكسب وحده، من دون فرمانات عسكرية، فهل حاول هاني شاكر دعم ما يراه جميلا حقا؟
ما الذي قدّمه هاني بسلطته وعلاقاته ورأسماله الرمزي لدعم مطربين ومطربات "أفذاذ"، بالمعنى الحرفي، في فرق الموسيقى العربية أو القومية، رواتبهم "كوميديا سوداء"، وإمكانات أقلهم تتجاوز هاني وجيله "كله"؟ ما مشروعه لإظهارهم، لتعريف الناس بهم، لتشبيكهم مع شعراء، وملحنين، من جيلهم، لتقديمهم عبر شركات إنتاج، أو فضائيات، أو حتى مساحات في تلفزيون الدولة، ظهورات، وحفلات، ودعايات، تحملهم، ما رؤيته؟ ما خطّته؟ ما مشروعه؟ الجواب: لا شيء. طبعا، لو كان ثمّة رؤية أو مشروع "كان هاني نفع نفسه"، (أي هاني). والخلاصة: المعركة ليست بين القبح والجمال، كما يصوّرها هاني وبهاليله، فالمهرجانات أمرُها سهل، وهي إلى زوال أو تطوّر بمجرد ظهور فنون جادّة، بنت زمانها، وسياقها. المعركة الحقيقية بين جديد، يبحث عن عالمه، لا يُراد له أن يولد، وقديم، منتهي الصلاحية، يستخدم سلطته لكي لا يموت، وسيموت.