15 نوفمبر 2024
مقاطع من طارق مصاروة
ما الأنسب لضربة البداية في الكتابة عن الصحافي والكاتب طارق مصاروة، والذي توفي الأسبوع الحالي عن 83 عاماً؟ ربما أردنيّتُه التي لم تجعله اسما ذائعا بين نجومٍ ومشاهير في الصحافات العربية، طوال خمسين عاماً، وهو الذي كان قلما لافتاً، كاتباً ومعلقاً موهوباً، صاحب لونٍ في كتابة العمود الصحافي، ترأس تحرير صحف، وأسّس صحفاً ومجلات، مُنع أحيانا من الكتابة، أدار مؤسساتٍ إعلاميةً ومؤسسات إنتاج تلفزيوني، وصاحب دور مشهود، منذ نهايات الخمسينيات، في إعلام الدولة الأردنية، موظفاً رسمياً رفيعاً، وقبل ذلك معلقاً مبكّراً في الإذاعة. ولمّا اختير وزيرا للثقافة في العام 2011، كان يحدّث أصحابَه مازحاً إنه أُعطي هذا المنصب "مكافأة نهاية الخدمة"، بعد أن كان قد أعطي في 2003 عضوية مجلس الأعيان عامين. ولكن كل المواقع والوظائف الحكومية وغير الحكومية التي عبَر فيها (عمل مستشاراً في رئاسة الوزراء في قطر عام 1971) لا تأخذُه إلى غير صفته الأهم، كاتباً صحافياً رفيع المنزلة، مقروءا، أستاذا في العبارة المقتصدة، الماكرة غالبا، في العمود الصحافي المجدول بالبساطة، والفكرة الواضحة، والموقف المباشر. ولك أن تتفق أو تختلف مع ما يطرح، غير أن غبطةً غزيرةً تمسّك، عندما يُقفل طارق مصاروة عمودَه بركلةٍ أخيرةٍ، حاذقةٍ غالباً.
أكتب هنا، بحماس، عن مقالة طارق مصاروة التي كانت صباحاتنا في الأردن، نحن الطلاب والمتعلمين والموظفين، والمسؤولين الرفيعين، تبدأ بقراءتها (وكذا زميلتها مقالة فهد الفانك) في الصفحة الأخيرة لصحيفة الرأي. وربما يعود هذا الحماس إلى الإيقاع الخاص الذي كان لقراءة الصحف، سيّما للمصابين، سابقا، بإدمان هذه العادة، لمّا كانت الكتابة الصحافية مهنةً مقدّرة، قبل ابتذالِها المريع الذي نكابده، في زمن "السوشيال ميديا" هذا. وأمر آخر أن رحيل طارق مصاروة يذكّر بأن عقدا فريدا من شيوخ الإعلام والصحافة في الأردن يمضي وينقضي. أولئك البُناة الذين لولا كدّهم، وانتماؤهم المخلص إلى بلدهم، ولولا شغفهم بالصحافة والقناعة بالكتابة، دورا ومهنةً ومسؤوليةً، لما أمكن، لنا، نحن من أجيالٍ تالية لهم، أن نعرف في الأردن إذاعةً وتلفزيونا وصحيفتي الرأي والدستور، ولما بدأنا خربشاتِنا الأولى في "بريد القرّاء" في هاتين الجريدتين. الراحلون محمود الشريف ومحمود الكايد وإبراهيم سكجها وعبد الرحيم عمر وجمعة حماد وحسن التل وجورج حدّاد وفهد الفانك وعرفات حجازي، (وغيرهم بالتأكيد)، وطويل العمر صلاح أبو زيد، والتالون لهم، متّعهم الله بالصحة، راكان المجالي، وحيدر محمود، وطاهر العدوان، وغيرهم.
لا أدّعي معرفةً خاصة بالراحل أبو علي (سمّى نجله علي إعجاباً بعلي بن أبي طالب)، وإنْ حظيتُ ببضع جلساتٍ طيّبةٍ معه (صاحب نكتة وشخصية جذّابة). وكما أترابي من زملاء المهنة والتجربة، أُعدّه أحد أساتذتنا الذين ساهموا في تحبيبنا بالصحافة، وبالكتابة فيها. وإلى أمرِه هذا، يحسُن أن يُعرَف عن طارق مصاروة أنه لم يتخفّف يوما من قناعته بالقومية العربية، ومن نزعته العروبية، مع وطنيّته الأردنية العالية، وهو الذي انتسب، في شبابه الأول، إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، لمّا أقامت أسرُته في دمشق مرتحلةً من مأدبا، ودرس فيها الثانوية وبعض الإعدادية، وإلى شيخوخته، ظل يقول إنه تلميذ أنطوان سعادة. ولعل هذه القناعات التي توطّنت فيه جعلته، كما كثيرين من أبناء جيله، قليل الاكتراث بقضايا الحريات والديمقراطية ومناهضة الاستبداد، فجعلته مناصرُتُه القوية العراق، في سنوات الحصار القاسية، يتعامى عن العُسف الباهظ الذي كان الحكم في هذا البلد يقترفُه تجاه مواطنيه، ويُنقل عن صدّام حسين إنه كان يعدّ كاتبنا الراحل اللواء 41 في الجيش العراقي. غير أن في سيرة طارق مصاروة كثيراً مما يحسُن ألا يُغفل عنه، ومنه جرأتُه في نقد ما لا يرضى عنه من خياراتٍ وإجراءاتٍ حكومية، في أزمنةٍ كانت السلطة فيها عُرفية، ما جعلنا نهمس بسؤالٍ عمّا إذا كان المسموحُ لطارق مصاروة (وفهد الفانك) ليس متاحا لغيرِه من الكتّاب في الصحافة الأردنية، أم أنه أحرز حصّته الأوسع من الحرية ببراعتِه في رفع سقفه الخاص، يوما بعد يوم، فصارت استحقاقا له؟
لا أدّعي معرفةً خاصة بالراحل أبو علي (سمّى نجله علي إعجاباً بعلي بن أبي طالب)، وإنْ حظيتُ ببضع جلساتٍ طيّبةٍ معه (صاحب نكتة وشخصية جذّابة). وكما أترابي من زملاء المهنة والتجربة، أُعدّه أحد أساتذتنا الذين ساهموا في تحبيبنا بالصحافة، وبالكتابة فيها. وإلى أمرِه هذا، يحسُن أن يُعرَف عن طارق مصاروة أنه لم يتخفّف يوما من قناعته بالقومية العربية، ومن نزعته العروبية، مع وطنيّته الأردنية العالية، وهو الذي انتسب، في شبابه الأول، إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، لمّا أقامت أسرُته في دمشق مرتحلةً من مأدبا، ودرس فيها الثانوية وبعض الإعدادية، وإلى شيخوخته، ظل يقول إنه تلميذ أنطوان سعادة. ولعل هذه القناعات التي توطّنت فيه جعلته، كما كثيرين من أبناء جيله، قليل الاكتراث بقضايا الحريات والديمقراطية ومناهضة الاستبداد، فجعلته مناصرُتُه القوية العراق، في سنوات الحصار القاسية، يتعامى عن العُسف الباهظ الذي كان الحكم في هذا البلد يقترفُه تجاه مواطنيه، ويُنقل عن صدّام حسين إنه كان يعدّ كاتبنا الراحل اللواء 41 في الجيش العراقي. غير أن في سيرة طارق مصاروة كثيراً مما يحسُن ألا يُغفل عنه، ومنه جرأتُه في نقد ما لا يرضى عنه من خياراتٍ وإجراءاتٍ حكومية، في أزمنةٍ كانت السلطة فيها عُرفية، ما جعلنا نهمس بسؤالٍ عمّا إذا كان المسموحُ لطارق مصاروة (وفهد الفانك) ليس متاحا لغيرِه من الكتّاب في الصحافة الأردنية، أم أنه أحرز حصّته الأوسع من الحرية ببراعتِه في رفع سقفه الخاص، يوما بعد يوم، فصارت استحقاقا له؟