مقاطع عن ثريّا جبران
لمّا شاهدنا، في المسرح الجنوبي في مهرجان جرش صيف 1985، مسرحية "ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ"، لكاتبها وليد سيف ومخرجها الطيب الصدّيقي، كان عسيرا أن نُفاضل بين هذا الأداء وذاك، لهذا الفنان أو تلك الفنانة، ممن اجتمعوا من عدة أقطار عربية في ذلك العمل الذي عدّ (وما زال يعدّ) حدثا خاصا في مشهديات المسرح العربي الحديث. ربّما باستثناء اللبنانية نضال الأشقر، والأرجح بسبب شهرتها، وتميّزها أيضا. وإلى الجزائرية صونيا والأردني محمد القباني واللبناني رفيق أحمد علي وغيرهم من "فرقة الممثلين العرب"، كانت المغربية ثريّا جبران واحدةً من ذلك الجمع، يغنّون قدّامنا ويرقصون ويحكون بأزياء مبهجة للفُرجة. تاهت بين أعيننا، ولم يكن اسمُها قد أحرز شهرتَه العربية، على غير ما صار بعد، سيما مع التفات الصحافات العربية الثقافية، الكويتية والمهاجرة اللندنية والباريسية خصوصا، إليها موهبةً عالية الجدارة، وهي التي بات اسمُها صاحبةَ دورٍ رئيسيٍّ في عملٍ مسرحيٍّ كافيا لتمتلئ مقاعد مسرح محمد الخامس في الرباط، مثلا، على ما شاهدتُ غير مرّة، في أولى سنوات التسعينيات.
لمّا شاهدنا في المحمّدية (بين الرباط والدار البيضاء)، في 1992، قصائد عبد اللطيف اللعبي "الشمس تحتضر"، ممسرحةً بأداء ثريّا جبران وزميلتها سيمون الباز، كان التناوب بين الهمس والأنين والتوجّع والصياح، وكذا تعبيرات حركتي الممثلتين، يورّطانا في اندماجٍ خاص مع الشعر الذي نسمع، ومع المسرح الذي نختبر فيه قدرتنا على أن نتواطأ معه مسرحا، فيما هو ربما أداءٌ خاصٌّ للشعر، وسط مشهد دائري وسينوغرافيا تشدّ العيون، أو ما لا ندري بالضبط. يومها، قال لنا اللعبي الذي تفرّج معنا على العرض، إنه شَعَر، مع ثريّا وسيمون والمخرج عبد الواحد عوزري، بأنه صار شفّافا أكثر، لأن ثلاثتهم فتحوا نافذةً تُفضي إلى أعمق أعماقه.. أظنّ أن الشاعر المعروف قال الذي وصل إلينا، من أداءٍ بالغ الحرارة، لثريّا بالعربية والباز بالفرنسية، نحو ساعة.
لمّا شاهدنا، نحن ضيوف مهرجانٍ للشعر في فاس ومدعوّين إليه، شتاء 1992، مسرحية "النمرود في هوليوود"، لكاتبها عبد الكريم برشيد ومخرجها عوزري، كانت ثريّا جبران استثنائيةً في استنفار كل قدراتها على الأداء الذي "يشخّص" الموقف والحالة. لا أتذكّر تفاصيل العمل، غير أن ثريّا باقيةٌ قدّامي، وأنا في واحدٍ من المقاعد الأولى، وبجواري الصديق الراحل الشاعر محمد القيسي، "أترجم" له، ما أمكن، ما عصيتْ عليه من مفرداتٍٍ بالعامية المغربية، لكننا ابتهجنا في تلك السهرية، بالمتعة التي أحدثها الانسجام البديع بين محمد بسطاوي وثريّا جبران على "الركح".
لمّا شاهدنا في الرباط، صيف 1992، "سويرتي مولانا"، لكاتبها ومخرجها عبد الواحد عوزري، بدا لبعضنا أن ثريّا جبران حملت هذا العمل الأقلّ كثافة وإيحاءً ومتانةً بين مسرحيات عوزري، رفيق رحلة ثريّا وزوجها، ومؤسّس "مسرح اليوم"، التجربة التي كانت محطّة التتويج المهنية لفنانتنا، كما قالت. كان العمل عن فرقةٍ مسرحيةٍ طموحةٍ، وإرباكاتٍ روتينيةٍ عامةٍ محبطة لها. ثلاثة ممثلين (ثريا وبسطاوي وعبد اللطيف خمولي) على الخشبة، يحاولون التغلّب على عوائق أمامهم. ويأتون في أحاديثهم على ملل الناس والغلاء ومكابدات العيش. كأن عوزري أراد بثّ هواجسه ومشكلات عمله مخرجا ورئيس فرقة مسرحيةٍ، تتوخّى الأجمل والأكثر فنا.
لمّا شاهدنا، الصديق يحيى القيسي وأنا، في زيارة إلى الرباط، صيف 2002، مدعوين إلى مهرجانٍ فني، مونودراما "أربع ساعات في شاتيلا"، عن نصّ جان جينيه، قدّرت كثيرا كم تعبت ثريّا جبران وهي تتمرّن على هذا النص، وهي تحفظه (صدر بالعربية بترجمة محمد برادة)، وهي تذهبُ إلى متن المذبحة وفداحتها. إلى هناك، حيث لا شيءَ سوى الألم، المتّصل بدربٍ فلسطيني طويل. كانت باهرةً إلى الحد الأقصى. أظنّني تعاطفتُ معها كثيرا، وأشفقت عليها أكثر، ذلك أن طاقةً من الشحنات الوجدانية أطلقتْها من حشاياها.
تمنيّتُ للفنانة، الراحلة قبل أيام، دوام الصحة، في اتصالٍ معها من هاتف الصديق حسن نجمي، في زيارةٍ للرباط قبل سبع سنوات. أتذكّرني أخبرتُها بما أمكنني قولُه عمّا فيّ من إعجابٍ كبيرٍ بها، وهي التي تمكثُ في مطرحٍ شفيفٍ فيّ، واحداً من الأسماء الدافئة، في فضاء الفن العربي الرائق، سيما وأنها صاحبة التزامٍ واضحٍ بقضايا بلدها وأبنائه، وسيما أيضا أنها فلسطينيةٌ في وجدانها. ولَكَم في سيرتِها من كدٍّ، منذ طفولتها في درب بوشنتوف في الدار البيضاء، مرورا بوقفاتها على خشبات مسارح بلا عدد في غير بلد، وبأدوارٍ لها في السينما، وليس ختاما لمّا صارت وزيرة للثقافة، ورفضت في الأثناء مطلب وزيرٍ زميل لها وقف عرض مسلسل تلفزيوني لها إبّان منصبها. .. قالت مرة إنها أعطت المسرح القليل، وأعطاها كل شيء. .. رحمها الله.