معركة عضّ أصابع بين واشنطن وطهران
انطلقت، مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية وفوز المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، رسائل إيرانية، دبلوماسية وسياسية وعسكرية، ردّاً على مواقف أعلنها الرئيس المنتخب، خلال حملته الانتخابية، بشأن الاتفاق النووي وبرنامجها الصاروخي وسياستها الإقليمية، في محاولة لدفعه إلى تغيير مواقفه تحت تأثير التصلّب الإيراني، وفرض تصوّرها للخروج من الجمود الراهن.
انطوت الرسائل السياسية الإيرانية على حجةٍ منطقية تقول إن على من انسحب من الاتفاق العودة إليه أولاً، ورفع العقوبات التي فرضها الرئيس السابق، دونالد ترامب، كي تعود هي عن الخطوات التي قامت بها ردّاً على الانسحاب الأميركي وإعادة فرض العقوبات، كما انطوت على رفضها إجراء تغيير في الاتفاق. وسعت إلى تعزيز موقفها بالحصول على دعم خارجي، إذ قام وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، بجولة إقليمية شملت أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وروسيا وتركيا، تمخّضت عن حصولها على تأييد روسي وتركي لموقفها. وزادت في الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة بالإعلان عن ضيق الوقت المتاح، عبر التلويح بتعليق العمل بالبروتوكول الإضافي في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/ شباط الجاري، ومنع المفتشين الدوليين من زيارة المنشآت النووية، ومتابعة تنفيذ قرار مجلس الشورى، القاضي برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20%. وأعلنت نصب ألف جهاز طرد مركزي في منشأة نطنز النووية خلال ثلاثة أشهر، وتخصيب 17 كيلوغراماً من اليورانيوم بنسبة 20% في منشأة فوردو، وعن وصول مخزونها من اليورانيوم المخصّب إلى أربعة آلاف كيلوغرام مقارنة بـ300 سابقاً، وعن إدانة رجل الأعمال الإيراني الأميركي، عماد شرقي، بتهم تجسّس غير محدّدة. وقد انضم شرقي إلى ثلاثة مواطنين أميركيين آخرين من أصل إيراني محتجزين في إيران، كما أعدمت أربعة رياضيين إيرانيين على خلفية مشاركتهم في احتجاجات سياسية واجتماعية. وقد صاحبت هذه الرسائل السياسية تحرّكات عسكرية: مناورات في الخليج العربي، تعمدت إطلاق صواريخ قرب حاملة طائرات أميركية موجودة في الخليج، وإطلاق صواريخ بعيدة المدى باتجاه المحيط الهندي وبحر عُمان، وقصف مليشياتها في العراق السفارة الأميركية، والعاصمة السعودية، بالصواريخ.
لا تنوي الإدارة الأميركية العودة إلى الاتفاق النووي من دون مراعاة هواجس حلفائها في المنطقة ومخاوفهم، إسرائيل ودول الخليج العربي، الذين شكّلوا حلفاً رافضاً للعودة إليه
لم تكن الإدارة الأميركية الجديدة ضد العودة إلى الاتفاق، فقد سبق أن أعلنت أنها ستعود إليه، وهذا ما أكّدته تعييناتها لمسؤولي السياسة الخارجية ومجلس الأمن القومي والمخابرات المركزية والمبعوث الخاص لإيران، أنتوني بلينكن وجايك سوليفان ووليام بيرنز وروبرت مالي، على التوالي، الذين يفضلون اعتماد الدبلوماسية، ولعبوا دوراً بارزاً في إنجاز الاتفاق النووي العتيد. لكنها لا تنوي العودة من دون مراعاة هواجس حلفائها في المنطقة ومخاوفهم، إسرائيل ودول الخليج العربي، الذين شكّلوا حلفاً رافضاً للعودة إلى الاتفاق الحالي، وداعياً إلى اتفاق مطوّر، بحيث ينهي أية فرصة لبناء سلاح نووي إيراني. إسرائيل تذهب بعيداً بالمطالبة بمنع إيران من تخصيب اليورانيوم، وهذا ما أشار إليه الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، بقوله: "بمجرّد العودة إلى الاتفاق النووي، يجب أن تكون هناك، في وقت قصير جداً، جولة من المفاوضات من أجل السعي إلى إطالة مدّة القيود على إنتاج إيران المواد الانشطارية، وكذلك لمعالجة أنشطة إيران الإقليمية، من خلال وكلائها في لبنان والعراق وسورية واليمن. هناك كثير من الحديث عن الصواريخ الدقيقة وأشياء أخرى تزعزع استقرار المنطقة، وأفضل طريقةٍ لتحقيق بعض الاستقرار في المنطقة، هي عبر التعامل مع البرنامج النووي". وهذا عنى عدم الموافقة على المطالب الإيرانية التي قدمتها عبر مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، مجيد تخت روانتشي، والتي انطوت على المطالبة بتنفيذ الاتفاق كاملاً، ومناقشة أي خلافٍ حوله بحضور الدول الموقعة عليه، وعدم ربط الاتفاق بأي ملفٍّ آخر، مثل ملف الصواريخ البالستية أو سياسة إيران الإقليمية، ورفض مشاركة أطراف جديدة في المفاوضات. ما يعني رفض الدعوة الأميركية والفرنسية إلى مشاركة السعودية وإسرائيل فيها.
الإصلاحيون في إيران مع المرونة لاستثمار العودة إلى الاتفاق النووي في تحسين الوضع الاقتصادي عن طريق تحرير الأموال المجمّدة في الخارج، والعودة إلى تصدير النفط
كان وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، قد قال: "إذا اتخذت القرار بالعودة إلى التزاماتها فسيستغرق الأمر بعض الوقت، وثمّة حاجة أيضاً إلى وقتٍ لنتمكّن من تقييم احترامها التزاماتها. نحن بعيدون من ذلك". وأكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، في بيان نشره موقع صحيفة بوليتيكو الأميركية، أن العودة إلى الاتفاق النووي ستستغرق وقتاً أطول مما قد يرغب فيه مدافعون عديدون عن هذا الاتفاق. وقال إن إيران لا تزال بعيدة عن الامتثال لمتطلبات الاتفاق النووي، وهناك خطوات عديدة ستحتاج إلى تقييم. وقد عززت الإدارة موقفها السياسي برسائل ردع من خلال إجراء مناورات التمرين المشترك مع القوات الجوية السعودية. وكشفت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عن استعدادات لزيادة قواتها ومعداتها في السعودية خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك نشر "القبة الحديدية"، وشبكات مضادة للصواريخ من صناعة إسرائيلية، فضلاً عن إبرامها؛ وزارة الدفاع، ترتيباً أولياً مع الرياض لاستخدام القواعد الجوية والموانئ البحرية المختلفة، في المناطق الغربية من البلاد؛ وذلك للتعامل مع أي حربٍ مع إيران. هذا بالإضافة إلى التطور الذي حصل بنقل إسرائيل إلى مظلّة الدول التابعة للقوات الأميركية المركزية. زارها قائد هذه القوات، الجنرال كينيث ماكنزي، للاطلاع على الأوضاع وتنسيق العمل، بعد أن غدت ضمن منطقة عمل قواته.
لن تكون العودة إلى الاتفاق سهلة أو قريبة في ضوء جملة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، فإيران تستعد لانتخابات رئاسية، تجرى يوم 18 يونيو/ حزيران 2021، وشدّ الحبال بين التيارين، الإصلاحي والمتشدد، على أشده، ما يجعل كل طرفٍ يدفع العملية السياسية نحو أهدافه، فالإصلاحيون مع المرونة لاستثمار العودة إلى الاتفاق في تحسين الوضع الاقتصادي عن طريق تحرير الأموال المجمّدة في الخارج، والعودة إلى تصدير النفط، ما يعزّز فرصهم في الانتخابات. والمتشدّدون، الساعون إلى السيطرة على السلطة الثالثة، كانوا قد سيطروا على مجلسي الشورى وصيانة الدستور، يتطلعون إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية، ويعملون على عرقلة خطوات الحكومة، جدّدوا رفض التصديق على لوائح مجموعة العمل المالي (FATF) المعنية بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب؛ لأن ذلك سيساعد حكومة الرئيس حسن روحاني في إدارة التجارة الخارجية والتعاملات المصرفية الأجنبية وتحسين موقفها الشعبي، كما يرغبون في قيادة المفاوضات بدعوى قدرتهم على تحصيل شروطٍ أفضل.
سيستمر عضّ الأصابع في محاولة كل طرفٍ دفع الطرف الآخر إلى الصراخ أولاً والقبول بشروطه
لا ترى الإدارة الأميركية وجود فرصة للاتفاق مع حكومةٍ على وشك الرحيل، فضلاً عن تداخل الملف النووي مع توجهها إلى محاصرة الوجود الروسي في الإقليم ومواجهة الصعود الصيني في شرق آسيا وتمدّده في بقية الدول، وما يثيره ذلك من تعارضٍ في النظر إلى الاتفاق النووي مع إيران، وبقية الملفات، حيث تبنت روسيا الموقف الإيراني بالعودة إلى الاتفاق الأصلي؛ ووعدت بإقناع الدول الأخرى الموقعة على الاتفاق للحذو حذوها. والصين وقعت معاهدة تحالف مع إيران مدتها 25 عاما تعهدت فيها باستثمار 400 مليار دولار خلال مدة المعاهدة. وفي المعاهدة بنود تضرّ بالمصالح الأميركية، مثل التنسيق الأمني واستئجار جزر وموانئ إيرانية، وتحويلها إلى قواعد عسكرية. وهذا سيدفعها إلى الضغط على حلفائها العرب والإسرائيليين، لتخفيف تعاونهم مع روسيا والصين في مجالات الدفاع والأمن والفضاء الإلكتروني والذكاء الصناعي والطاقة النووية، والسعي إلى استثمار المعطيات الجديدة؛ حيث إيران اليوم أضعف مما كانت عليه عام 2015، فقد أنهكتها العقوبات الاقتصادية، وحاصرتها تغيرات جيوسياسية في الإقليم، في ضوء التظاهرات الشعبية في العراق ولبنان المندّدة بدورها في البلدين، وإصرار إسرائيل على مواصلة مهاجمة الموارد الإيرانية في سورية، على خلفية اعتبار إخراج إيران منها أولوية، وقيام حلف إسرائيلي خليجي لمواجهتها، واتفاقه على رفض عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق من دون تعديله، ومن دون شمول المفاوضات البرنامج الصاروخي لإيران وتوسّعها الإقليمي.
سيبقى الشد والرخي مستمراً بحدّه الأدنى، حتى إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وسيستمر عضّ الأصابع في محاولة كل طرفٍ دفع الطرف الآخر إلى الصراخ أولاً والقبول بشروطه.