مصر في ليبيا

15 يونيو 2020
+ الخط -
"عنزة ولو طارت" مثلٌ يستدعى بشأن من يعاندون الحقائق الماثلة قدّام كل الأعين والأبصار. ولذلك يصلحُ بشأن مهرجان الكلام التي ينشط فيه ناس النظام الحاكم في مصر، في خصوص الجاري في ليبيا، عندما يُطرِبون أنفسَهم بالثرثرة عن "الاحتلال التركي" لهذا البلد، وعن المرتزقة السوريين الذين يحاربون الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وهذا تنتصر له القاهرة، بدعوى محاربته مليشيات الإرهاب في طرابلس، وعمله من أجل وحدة ليبيا. وأخيرا، لمّا ذاق الجيش المذكور (بما فيه من جنجويد وروس ومدخليين) الخسارات المعلومة في غرب البلاد، وطُرد من محيط طرابلس، ظنّ عبد الفتاح السيسي أن في وسعه أن يلعب سياسيا، بعد أن خاب لعبُه بالذخائر والصواريخ هناك، فافتعل ما سمّاه "إعلان القاهرة"، استضاف في حفل إطلاقه حليفه الخائب، حفتر، والرجل الوازن في الشرق الليبي عقيلة صالح، متناسيا أن ثمّة اتفاقا سياسيا مودَعا لدى الأمم المتحدة، بموجبه قامت شرعيةٌ (ناقصةٌ لا ريب) في طرابلس، لم يأت إلى باله إخطارُها بالإعلان هذا، الموصوف مبادرةً سياسية. ثم استرسل طبّالوه في الكلام عن وقوف القاهرة على مسافةٍ واحدةٍ من جميع الأطراف الليبية، معطوفا على الانتفاخ (الكاريكاتيري) إياه عن مكانة مصر ودورها، ثم الكلام البائس عن مصالح مصر، أما حكاية الأمن القومي فقصةٌ أخرى.
لا تصلح للخوض في أمر مصر الراهن، في الموضوع الليبي (وغيره)، ولتشخيص القاع الذي تقيم فيه الدبلوماسية المصرية ورهانات النظام الطائشة، إلا لغةٌ كهذه. .. نكتة المسافة الواحدة  تذكّر باستقبال حسني مبارك سمير جعجع وفؤاد السنيورة وازوراره عن استقبال ميشيل عون ومحمد رعد، وتستثير فائضا من السخرية، وسؤالا، في الوقت نفسه، عن الكيفيّات التي يُجري فيها العقل الحاكم في القاهرة حسابات المصالح المصرية، واستحقاقات الأمن القومي. وأول ما تتطلبانه، هذه وتلك، أن تكون مصر فاعلا جامعا وفاقيا بين نخب الليبيين في شرق بلادهم ونظرائهم في غربها، أعيانا وعناوين سياسية واجتماعية، فإذا كان الاتفاق السياسي (الصخيرات) لم يدشّن، تماما، أولى الخطوات إلى دولةٍ ليبيةٍ جديدةٍ مشتهاة، فالمفترض بالجهد المصري أن يبحث عن كل ما يسد الفجوات التي استجدّت عند تطبيقه، ويعين الليبيين في بناء جيشٍ واحد ومؤسساتٍ موحدة. وهذا جهدٌ شاق، كان في الوسع أن تساهم مصر فيه، بمشاركة الجزائر وتونس والمغرب والخليج. ولو جرى شيءٌ منه، لما طرأت المناحات الركيكة الراهنة في صحافات القاهرة وتلفزاتها عن "الاحتلال" و"العدوان" التركيين. ببساطةٍ، لأن دفء الحضن العربي (معذرةً لتقليدية التعبير) كان سيُغني عن الالتجاء إلى طائرات البيرقدار التركية لتحمي طرابلس من الصواريخ والقذائف التي تدفع ثمنَها أبوظبي، وتُسلح بها مصر الماريشال المطوّق بالهزائم منذ وادي الدوم في تشاد قبل أزيد من ثلاثة عقود.
معلومٌ أن حكومة الوفاق في طرابلس تستقوي بعدّة مليشيات، وأن بِنياتها المؤسسية هشّة، ولكن تصحيح هذا الحال لا تحقّقه الدروشة اليومية عن الإرهاب والإخوان المسلمين في هذه الحكومة، ولا بيانٌ لدار الإفتاء المصرية عن "الاحتلال العثماني" في القسطنطينية، وإنما ثمّة ألف سبيلٍ وسبيلٍ إلى ذلك، ليس منها الارتهان لمحمد بن زايد في أبوظبي، واحتباس العقل السياسي والبوليسي الحاكم في القاهرة في خرّافية الإخوان والإسلام السياسي. وثمّة سبيلٌ كان في الوسع التقاطُه، لمّا أعطت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بين الحكومتين، الليبية والتركية، مصر الجزء الأكبر من مياهها الإقليمية التي فقدتها في اتفاقيتها مع قبرص واليونان. والمعنى هنا، وفي مواطن أخرى، أن مصلحة مصر بداهةً في علاقاتٍ صحيةٍ وندّيةٍ مع تركيا. ومرجّحٌ أنها صحيحةٌ الأخبار عن طلب المخابرات والخارجية المصريتين من السيسي الموافقة على تلك الاتفاقية، غير أنه رفض. ومرجّحٌ أيضا أن تركيا التي وصلت الصادرات المصرية إليها في العام 2018 إلى 3.1 مليارات دولار، وزارها في العام نفسه 150 ألف سائح مصري، أنفع لمصر من أغرار السياسة في أبوظبي وغيرها..
.. هل من سويٍّ يفهم ألف باء السياسة يكتب الكلام أعلاه؟ كيف فات صاحبُه أن الحكم في القاهرة عسكريٌّ انقلابي، من الصنف الاستبدادي الشديد الركاكة، يحترف الفشل (تيران وصنافير، كورونا، سد النهضة، .. إلخ)، أنّى له أن يعرف مصالح مصر أين، ومكانتَها في أي مطرح، وأمنَها القومي في أي حسابات.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.