محنة المجتمع المدني في مصر .. انتخابات الصحفيين نموذجاً
تسمح العلوم الاجتماعية باستخدام أداة بحثية، يطلق عليها "الملاحظة بالمشاركة"، وتعترف بأهليتها وجدواها العلمية. ومن هذا المنظور، يسعى كاتب هذا المقال، ومن موقع مرشّح خاسر في انتخابات نقيب الصحفيين المصريين (2 إبريل/ نيسان الجاري) إلى أن تثري خبرة انخراطه المباشر الفاعل ملاحظات نقدية، ظلّ يدوّنها في كتب ودراسات موثقة ومقالات عن أحوال الصحافة في بلاده، ونقابة صحفييها، ما يزيد على ربع قرن، مع أمل يحدوه في الإبقاء على موضوعية هذه الملاحظات والانتقادات، مجاهداً النزوع إلى ذاتيةٍ قد تنتج عن تدافع المنافسة في هذه الانتخابات وما أحاط بها.
من دون التسليم بمبالغاتٍ تحتاج إلى تمحيص موضوعي ودقيق، من قبيل أنّ انتخابات نقابة الصحفيين بمثابة مقياس "تيرمومتر" ينبئ بتغيراتٍ وشيكةٍ في السياسة والسلطة، أو أنّها الأكثر نزاهةً وديمقراطيةً في مصر، لا يمكن إلاّ النظر إلى ما جرى في النقابة في سياق عام، إذ يعيش المجتمع المدني حلقةً أكثر قسوةً من محنته الممتدة منذ إحكام التسلط العسكري البوليسي قبضته عام 1954. وهذا مع تغوّل سلطة الدولة الاستبدادية وتوحشّها، وما يصحبها من ضعف مقاومات المناعة ضد الفساد، وانخفاض سقف الحريات العامة، بما في ذلك حرية الصحافة وحق المواطن في المعرفة. ناهيك عن أزمة اقتصادية تعتصر اليوم ما تبقى للطبقة الوسطى من "الستر"، وبمن في ذلك الصحفيون الذين تموت مهنتهم، وتندر فرص العمل أمامهم، وتتهاوى دخولهم في مواجهة غلاء المعيشة وتدني الأجور أو انعدامها جرّاء غياب الحرية والاستقلالية.
من الملاحظات الأبرز التي خرجتُ بها من الجولات والحوارات الانتخابية تفشّي اليأس واللامبالاة بين الصحفيين المصريين. وإذا انتقلنا من مربع "الملاحظة بالمشاركة" إلى تتبّع المعطيات الإحصائية، لتنبهنا إلى تزايد صعوبة اكتمال نصاب الجمعية العمومية لتجرى الانتخابات، وقد بدأت هذه الظاهرة على نحو لافت في مارس/آذار 2015، أي مع الانتخابات التي تلت الانقضاض على ثورة يناير (2011) وفرص الديمقراطية السياسية في صيف العام 2013. وهذا، بصرف النظر في الأصل، عن التشوهات والإخفاقات في هذا المسار بين 2011 و2013، فاعتباراً من 2015 أصبح من المستبعد انعقاد جمعية انتخابات الصحفيين المصريين بنسبة الخمسين في المائة، وانخفض سقف الطموح إلى استكمال نصاب الربع لاحقاً، ليس إلاّ.
انخفاض الحضور يأتي على عكس الزيادة في أعداد أعضاء النقابة، ففي انتخابات 2017 كان عدد المصوتين نحو 4800، انخفض في التالية 2019 إلى 4588، ثم إلى 3944 أخيراً
في واقع الأمر، لم تكتمل جمعية 2021، وفي سابقة خطيرة، إلاّ بعد ما يزيد على الثلاث ساعات. وهذا بالتجاوز والمخالفة لقانون النقابة، وللموعد المحدد المضبوط في لائحتها الداخلية. وفي نهاية يوم الاقتراع، اتضح أنّ ما يزيد على 60 في المائة من الجمعية العمومية عزفوا عن المشاركة في التصويت. كما يفيد تتبّع المعطيات الإحصائية، مرة تلو أخرى، اكتشاف منحنى متراجع لأعداد المشاركين. ويقيناً، وبدرجة أكبر على مستوى النسبة، فإنّ انخفاض الحضور يأتي على عكس الزيادة في أعداد أعضاء النقابة، ففي انتخابات 2017 كان عدد المصوتين نحو 4800، انخفض في التالية 2019 إلى 4588، ثم إلى 3944 أخيراً. وإذا أضفنا ما كان ملحوظاً قبل اقتراع 2021، وفي يومه، من حشد المؤسسات الصحفية الكبرى والمملوكة للدولة بأساليب سلطوية إدارية عدة، بما في ذلك الحضور الجماعي في حافلات وكشوف الحضور والانصراف في يوم عطلة، لرجّحنا مدى تفشّي اليأس واللامبالاة بين أغلبية متنامية من الجمعية العمومية للصحفيين المصريين، مع الانخفاض المتعاظم في الثقة بالعملية الانتخابية وفرص التغيير عبر الصندوق. وهو أمر لا يخرج عن السياق العام الذي أصبحت تعانيه الانتخابات أو الاستفتاءات العامة كافة في مصر، اعتباراً من 2013 مقارنة بالعامين 2011 و2012.
وثمّة ما يقال أيضاً، وبالأصل، عن أحوال الجمعية العمومية للنقابة المصرية وتركيبتها، فالعديد من الصحفيين الممارسين بحق، خصوصاً في الصحافة الإلكترونية، خارج النقابة، بسبب شروط عضوية متخلفة، لا تواكب تطورات المهنة والصناعة، وغير عادلة، وترجح سلطة صاحب العمل على الشأن النقابي، وتتعنت مع الأكثر التزاماً بأخلاقيات الصحافة واعتداداً بكرامته الإنسانية، فيما يلتحق بالنقابة، منذ عشرات السنين، آخرون على خلاف المعايير المهنية. وتضاف إلى هذا آليات الإفساد التي تعمل مفعولها بين أعداد متزايدة من الأعضاء، وتقوض الأسس "النقابية" وأبجدياتها. وببساطة، بدلاً من النضال والعمل من أجل الحقوق الاقتصادية التي تتقدمها أجور كريمة عادلة وعلاقات عمل أكثر تقدماً والدفاع عن الحرية والمهنية، يترسخ استبدال "النقابة" بـ"كيان كمجمع مصالح لأفراد" يوفر، عبر العلاقات الشخصية غير المؤسسية، وفي الخفاء بين عضو المجلس وعضو الجمعية العمومية، اقتناص الخدمات المميزة، والممتلكات الريعية لإعادة الاتجار بها.
مع انتخابات 2021، استمر مفعول آليات الفساد والإفساد
ومع انتخابات 2021، استمر مفعول آليات الفساد والإفساد، وانعكس على حجم الجدل حول الزيادة المرتقبة في "بدل التدريب والتكنولوجيا" مع موسم الانتخاب، ومن خلال "النقيب الحكومي"، وهو ما باتت تعتمد عليه أعداد متزايدة من أعضاء النقابة بوصفه مورداً أساسياً، وربما وحيداً، في ظلّ تفشي البطالة وموت صناعة الصحافة، جراء الاختناق بالاستبداد والقمع. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تكشّف أيضاً التوسع في "القروض الحسنة" من دون فوائد، من غير إعلان قوائم للمستفيدين منها وشروطها وقواعدها. وقد بلغت، وفق تصريح للنقيب، رئيس هيئة الاستعلامات نفسه، 15 مليون جنيه مصري (955 ألف دولار) خلال العامين الأخيرين. ولإدراك احتمالات نفوذ هذه الآلية على صناعة الولاء بين أعضاء المجلس والجمعية العمومية، فإنّ قيمة القرض الواحد تتراوح بين خمسة آلاف جنيه (318 دولاراً) وعشرة آلاف (636 دولاراً)، ما يعني أنّ هذه القروض في دورة نقابية واحدة للنقيب ونصف أعضاء المجلس شملت ما بين 1500 و3000 من بين إجمالي نحو عشرة آلاف عضو. كما يتبين، وفق مصادر داخل مجلس النقابة، أنّ ما يزيد على 600 ألف جنيه (38 ألفاً و200 دولار) جرى توزيعها قروضاً حسنة خلال فترة الحملة الانتخابية الأخيرة وحدها. وهناك آليات أخرى غير "البدل" و"القرض الحسن". والأهم أنّ هذه الآليات تعمل مفتوحة تجاه احتمالات التأثير على إرادة الناخبين في سياق نقابة صحفيين، هي في الأصل فاقدة استقلالها الاقتصادي المالي. وقد انتقلت قيادتها، خلال السنوات القليلة الماضية، من خطاب يحذّر من الاستمرار في الاعتماد على الدعم الحكومي إلى المفاخرة بجلب المزيد منه.
نقابة على هذا الحال، وبجمعية عمومية تعاني هذه التشوهات، يجاهد من تبقّوا في جمعيتها، مدافعين عن أبجديات العمل النقابي، فلا ينجح إلاّ في ما ندر، أو يحقق مكاسب لا تتجاوز كثيراً نطاق المعنوي إلى الفعلي المتحقق. وفي واقع الحال، اعتادت مجالس النقابة وأمعنت أيضاً في إهانة الجمعية العمومية، والعدوان عليها، والإفلات من رقابتها ومحاسبتها. وهذا كله مع ميل واضح إلى شخصنة المواقع القيادية وخطابها وأدائها بعيداً عن المؤسسية. وكما يجري تماماً بشأن رأس سلطة الدولة وعلاقته بالمواطنين. وهذه المرّة كذلك، عرفت الجمعية العمومية للصحفيين شواهد عدة على عدم احترام مجلس النقابة (نقيباً وأعضاء) قراراتها، بما فيها تلك التي أكدت على حظر جمع مناصب رؤساء الإدارة والتحرير الصحفية والوظائف الحكومية مع الترشح للمواقع النقابية وشغلها، ناهيك عن عدم تمكين الجمعية العمومية من إدارة اجتماعاتها ومساءلة المجالس. كما أضيف إلى هذا كله، في سابقة جديدة، انتهاك قانون النقابة وحقوق أعضاء الجمعية في الاطلاع على التقرير العام والميزانية عامين متتاليين. ناهيك عن تجاهل (وانتهاك) ضمانات حياد المشرفين على الانتخابات، ونزاهتهم وشفافيتهم، وتوخّي عدم تضارب المصالح.
شقت القائمة السلطوية الأمنية طريقها بقوة إلى فوز لافت، متكئة على أقلية حضرت الجمعية العمومية
في سياقات كهذه، شقت القائمة السلطوية الأمنية طريقها بقوة إلى فوز لافت، متكئة على أقلية حضرت الجمعية العمومية وبصعوبة. وجاءت النتائج لتترجم، من جانب آخر، الحصاد المرّ لأخطاء ما يسمى "تيار الاستقلال" والذي هيمنت وتسلطت عليه "مجموعة من الناصريين السلطويين" قبلوا باقتران فج غير مسبوق بين نقابة الصحفيين والسلطة التنفيذية، بعدما تعايشوا مع ملامح عدة لتقويض الاستقلالية وأسس العمل النقابي ونزاهة الانتخابات. كما تترجم النتائج الفشل في بناء تيار جديد يطابق شعارات الحرية والاستقلال والنقابية بالأفعال والفعالية، ويتقدّم بقائمة مرشحين علنية، نقيباً وأعضاء، وببرنامج مشترك، وكي تواجه تخلفاً مقيماً في أحوال المنافسة في انتخابات الصحفيين المصريين، والتي تتسيدها "الفردانية"، لتنتهي، في الأغلب، إلى قوائم خفية تقوم على تحالفاتٍ غير مبدئية، وتوصم بالخيانات.
وهكذا أسفرت انتخابات 2021 عن ثلاث ظواهر منافية لأسس العمل النقابي، ولا تترجم زخم السخط في خطابات التواصل الاجتماعي على إغلاق نقابة الصحفيين المصريين أمام قضايا حرية الصحافة والصحفيين والمهنية، وحتى فضائها الداخلي في وجه أعضائها. وهذه الظواهر هي: استمرار موظف حكومي بدرجة نائب وزير، رئيس هيئة الاستعلامات، في مقعد النقيب، لمهنة يعترف الدستور والقوانين، بما في ذلك قانون النقابة، باستقلاليتها عن السلطة التنفيذية، وإن انخفضت الأصوات التي حصدها 854 صوتاً، من 2810 في مارس/آذار 2019 إلى 1965 هذه المرة. كذلك، فاز ثلاثة رؤساء تحرير لصحف مملوكة للدولة من إجمالي ستة أعضاء مجلس جرى انتخابهم بخلاف النقيب. وعلى هذا النحو، تتسع سطوة سلطة الثواب والعقاب، ومعها تضارب المصالح ونفوذ ممثلي الملكية داخل مجلس نقابة الصحفيين، من اثنين في انتخابات 2019 وأربعة مع نهاية ولاية هذا المجلس إلى خمسة، في سابقة جديدة مع انتخابات 2021. أيضاً، أبقت النتائج على أربعة من إجمالي سبعة (نقيباً وستة أعضاء) كانوا في المجلس السابق... ولعلّ في هذه الملاحظات على انتخابات نقابة الصحفيين ونتائجها ما يدعو إلى مزيد من تأمل محنة المجتمع المدني في مصر اليوم.