عرب اليوم و25 يناير و"الربيع العبري"
صور من ثورة 25 يناير المصرية ستظل محفورة في الذاكرة. منها صورة لعربة قوات الأمن المركزي معطوبة متفحمة في مدخل أحد الشوارع المؤدّية إلى ميدان التحرير في القاهرة، وعليها رسم لنجمة داود. وقد ظلت هكذا على هذا الحال، وبرمزيتها، أسابيع بعد "جمعة الغضب". وأيضا تلك الصورة لإنزال علم إسرائيل من فوق سفارتها في القاهرة، ومعها صور أخرى لاقتحامها في 9 سبتمبر/ أيلول 2011.
تفرض مثل هذه الصور نفسها على من عاش أحداث الثورة المصرية، ويصعب عليه نسيانها ولو بعد مرور 11 عاما. وما يجدّد أيضا حضور هذه الصور اليوم مجريات الأحداث التي تتبدّى فيها إسرائيل فاعلةً ومندمجةً في النزاعات الإقليمية العربية الآن، كالدخول على خط التصعيد العسكري في اليمن بين الإمارات والسعودية من جانب والحوثيين من جانب آخر. أو حتى التدخل بين المكونات المتصارعة في البلد العربي الواحد، فيجد هذا الفعل والاندماج ترجمةً له في السودان وليبيا. ولسنا في حاجةٍ لاستدعاء سوابق عدة، منها التوتر بين المغرب والجزائر.
وهكذا، يصبح مأذونا لدولة الاحتلال صراحة القيام بدور اللاعب الفاعل داخل النظام الإقليمي العربي، وهي التي باتت اللاعب المهم المعترف به حليفا وضامنا إلى جانب الحكم التسلطي الاستبدادي للعائلات الإقطاعية الريعية والجنرالات في الصراعات الداخلية في هذا البلد العربي أو ذاك. وعلى الأرجح، يفوق هذا التدخل بسطوة الدعم العسكري الأمني الاستخباراتي والتوسط السياسي عند واشنطن ما كان مع ما أسميت "الحقبة الإسرائيلية"، إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان منتصف عقد السبعينيات من القرن العشرين، وصولا إلى العدوان على المفاعل العراقي 1981، وعلى تونس (حمام الشط) في 1985، ثم اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) 1988، ومرورا بغزو لبنان في 1982. وعلى الأقل، هذا التدخل اليوم أوسع انتشارا في مداه الجغرافي على خريطة العالم العربي، وأعمق اختراقا. والأخطر أنه يتبدّى بين بعض العرب مقبولا ومبرّرا ومعترفا به على نحوٍ لم يكن من قبل. ويكفي أن يُلاحَظ ما طرأ على تحوّلات مصطلحات لغة الثقافة السياسية والإعلام عندنا من "اختراق" و"تدخل" إلى "تعاون" و"تحالف". كما تكفي الإشارة إلى أن الاتصالات واللقاءات والاتفاقات، التي كان فاعلون في النظام الإقليمي العربي يخفونها في السر وطي الكتمان من قبل، أصبحت اليوم في العلن، بل وعنصر استقواء فوق طاولة الصراع والتفاوض مع قوى إقليمية أو داخلية، بل ومحض داخلية، كما حال الاصطفاف إلى جانب جنرالات السودان ضد الشعب.
تبيّن عودة إلى الأرشيفات الإسرائيلية ذاتها كم كان، وما زال، الاصطفاف واضحا ضد الثورة المصرية
على مدى 11 عاما، قيل الكثير في تشويه انتفاضات الشعوب العربية وثوراتها، وفي تحميلها ما لا تحتمل وتتحمّل من مسؤولية عن أزمات وإخفاقات وتدهور وضعف ومعاناة، وكأن النظام الإقليمي العربي ووحداته المحكومة بطول الاستبداد والفساد، وبالتخلف والجهل المقيم، لم تكن في الأصل في سبيلها إلى انهيار تلو آخر. ووصلت حملات التشويه والافتراء على الانتفاضات والثورات إلى إطلاق تعبير "الربيع العبري" عليها، في استثمار "عقلية المؤامرة" التي تسيطر على جانبٍ لا يستهان به من الثقافة والإعلام وطرق التفكير غير العلمي في عالمنا العربي.
في رد مجريات الثورة المصرية وسرديتها على أكذوبة "الربيع العبري"، يمكن أن نستدعي أنها لم تكن المرّة الأولى فقط التي تتعرّض فيها السفارة الإسرائيلية، منذ افتُتحت عام 1979، إلى تهديد ورفض شعبي/ شبابي على نحو دفع السفير إلى مغادرة مصر، وكذا إلى إغلاق مقرّ السفارة ثم تغيير موقعها. بل، يقينا، حملت الأشهر القليلة بعد 25 يناير/ كانون الثاني 2011 معها أكثر النقاشات والمحاولات جدّية بشأن مراجعة بنود الاتفاقات مع تل أبيب المجحفة بمصر وحقوقها، بما في ذلك الاقتصادية، والماسّة بسيادتها وبأمنها القومي. ولم يكن هذا ممكنا إلا باتساع هامش الحريات وتفعيل الضغوط الشعبية نسبيا مقارنة بما كان منذ عقود.
وتبيّن عودة إلى الأرشيفات الإسرائيلية ذاتها كم كان، وما زال، الاصطفاف واضحا ضد الثورة المصرية. وهنا تُمكِن الإحالة إلى نماذج لدراسات اشتغلت على مصادر باللغة العبرية، ففي القاهرة، صدر عام 2016 كتاب خالد سعيد بعنوانٍ لا يحتاج إلى إيضاح "مبارك كنزهم الاستراتيجي: قراءة في وسائل الإعلام العبرية عن الرئيس المخلوع". يغطّي فترة من 25 يناير/ كانون الثاني 2011 إلى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2015، ويستند إلى متابعات عدة صحف، منها"هآرتس" و"معاريف" و"يديعوت أحرونوت" و"يسرائيل هيوم"، والقنوات التلفزيونية الثانية والسابعة والعاشرة، وموقعي "ديبكا" و"واللا"، ومنشورات مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب وغيرها. ومن أبرز نتائج الكتاب عجز أجهزة الاستخبارات الصهيونية عن توقع الثورة المصرية ثقة في نظام حسني مبارك، وأن تل أبيب ناصبت الثورة المصرية العداء منذ اللحظة الأولى، وأعلنت صراحة تأييدها مبارك، ودعمها الكامل أمنيا ولوجستيا وإعلاميا نظامه. وربما لذلك انتشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية الكلمة العبرية "آسون" في وصف الثورة المصرية، وتعني "كارثة".
تودّ إسرائيل العنصرية أن تدّعي إلى الأبد أنها "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن تظل الشعوب والجيوش العربية على حالها
وأجرت رسالة ماجستير في كلية الإعلام في جامعة الشرق الأوسط في عمّان في عام 2014 ، للباحث حسام محمد شنك، تحليل مضمون صحيفتي "هآرتس" و"معاريف" بين 25 يناير/ كانون الثاني و1 يونيو/ حزيران 2011، وخلصت نتائجها إلى أن أغلب المحللين والكتاب في الصحيفتين اتفقوا على أن الديمقراطية في العالم العربي خطرٌ على إسرائيل، فيما استدعى بعضهم فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية بداية عام 2006. وتوصلت هذه الرسالة العلمية إلى التأكيد أن الحرية في مصر أكبر خطر على إسرائيل وأنظمة الحكم القمعية في العالم العربي، وبخاصة الخليج. وفي هذا السياق، انتهى الباحث إلى وقوف إسرائيل إلى جانب الرئيس مبارك ونظامه، ورهانها على المجلس العسكري بوصفه امتدادا لهذا النظام من أجل ضمان أمن إسرائيل.
تتحرّك أيدي إسرائيل حاليا داخل السودان وليبيا واليمن ومنطقة الخليج، وصولا إلى المغرب، لتسهم في إعادة تشكيل المجتمعات وبنية السلطة من الداخل، وحسم الصراعات الإقليمية على امتداد خريطة العالم العربي (إلا من رحم ربي). وتعيد هذه الأيدي إنتاج الأهداف الصهيونية ذاتها ضد ثورة الشعب المصري. وفي ذلك، تدرك تل أبيب أن الدولة المدنية الديمقراطية في أي بلد عربي تمثل تهديدا لها. ولا يتعلق الأمر وحسب بفرص تغيير موازين القوى الكلية في الصراع العربي الصهيوني، بل أيضا في فتح الطريق أمام بناء جيوشٍ قادرة بحقّ على المواجهة والحرب، إذا ما خضعت لرقابة الشعوب، لتحريرها من الفساد ومختلف عوامل الضعف، ولأجل أن يتفرّغ العسكريون في عالمنا العربي لمهامهم الأصلية.
وبالطبع، تودّ إسرائيل العنصرية أن تدّعي إلى الأبد أنها "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن تظل الشعوب والجيوش العربية على حالها. بل وبالإمكان افتراض أن تعثّر مسار الانتفاضات والثورات العربية قد أسهم في ما يُلاحظ اليوم من استفحال تدخلات تل أبيب في النظام الإقليمي العربي، وداخل العديد من دوله ومجتمعاته.