في وداع منذر الأعظمي
بكيت في الفجر عندما طالعت خبر وفاة الصديق العراقي، منذر الأعظمي. طالعت الخبر الصادم الحزين في صفحة صديق تونسي على موقع للتواصل الاجتماعي، فلم أستطع منع الدموع.
لم أعرف منذر في وطنه العراق أو في بلدي مصر، أو حتى في بريطانيا التي ربما عاش فيها معظم سنوات عمره. وهو في هذا مثل كثيرين من النخبة العراقية، الناجية بالعقل والضمير، من طغيان حكم صدام حسين ووحشيته وبعثه وأجهزة أمنه ومخابراته منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات. بينهم أصدقاء وزملاء في الحزب الشيوعي العراقي، أو عرفتهم في أيام الدراسة في جامعة القاهرة، أو لاحقا خلال سنوات العمل الصحافي في أبو ظبي نهاية الثمانينيات. وأذكر هنا على نحو خاص الصديق عبد الإله توفيق الذي شغل سنوات عصيبة رئاسة المنتدى العراقي في بريطانيا. وتمتد علاقة الصداقة بـه، وهو الطيب العطوف المعطاء، إلى ما يناهز الخمسة والثلاثين عاما. ومع أنني عرفت منذر الأعظمي قبل أقل من خمس سنوات فقط، فإن أشياء ما تحرّكت بقوة وسرعة ودفء بين عقلينا ووجدانينا. وربما وجدت في صداقته تعويضا وعزاء ما عن لقاءات انقطعت مع عبد الإله منذ زار القاهرة قبل نهاية عقد التسعينيات.
التقينا، منذر وأنا، في تونس. ويتضح لي اليوم أن كل اللقاءات بيننا كانت هناك. في تونس، حيث احتفظ بسكن قرب قلب عاصمتها، واختارها وطنا ثانيا في سنواته الأخيرة. ينعم بدفئه وهو يقتطع وزوجته رفيقة حياته الكاتبة العراقية، هيفاء زنكنة، شهورا كل عام بعيدا عن غربة لندن وبرودتها وضبابيتها الطويلة.
وكما هو حال عبد الإله، وأصدقاء عراقيين آخرين لم يغادروا القاهرة منذ عقود طوال، لم أعثر عند منذر على إجابة شافية للسؤال: لماذا لا تعودون إلى العراق الذي تحبّون، ويأخذكم دوما حنين جارف إليه بعدما ذهب صدّام و"البعث"؟. أظنني مع منذر كأنني أنكأ جرحا غائرا تحت الجلد واللحم، ولكنه ينزف ويدمى، فتداعت من سؤالي أسئلة: وهل عاد العراق؟ وهل هذا هو العراق الوطن الذي كان أو تمنيناه واشتقنا إليه؟ اتضح لي أن الرجل كان له موقف مناهض للغزو الأميركي البريطاني للعراق. وكان من بين عراقيين في المنفى أعلنوا مبكرا، في 1 سبتمبر/ أيلول 2002، مذكرة ضد الحرب بعنوان "ليس باسمنا". وإلى جانب اسمه صفته: "باحث بقسم كلية كينغز جامعة لندن"، ويمكن العثور على المذكّرة في موقع "الحوار المتمدن".
أبحاث منذر الأعظمي ومقالاته العلمية في الرياضيات بالإنكليزية لا وطنه العراق ولا أي بلد عربي آخر استفاد منها
إنها جناية الطغاة على الأوطان. يذهبون أو يجري اقتلاعهم بعدما يخلفون ورثة متوحّشين أيضا من محتلين مستعمرين وغلاة طائفيين وجهل وفقر ونهب ومجتمع مدني محطّم وديمقراطية مريضة عاجزة، أو يتناسل من أصلابهم طغاة جدد، ربما أكثر قسوة وبطشا. ناهيك عن أحزاب ناضلت فاشية الطغاة المستبدّين ممن رفعوا شعارات "الوطنية". وقد انتهت بها المآلات إلى انقسامات واتهامات بالتعامل مع الغزاة المستعمرين، وبالشللية والعائلية والعشائرية والنخبوية والتنكّر لتراثها النضالي وللديمقراطية. ولعل في هذه المأساة أحد أبعاد أزمة الأحزاب اليسارية التاريخية عند العرب، والتي كانت، نحو ثلاثة عقود أو أربعة بعد الحرب العالمية الثانية، كبرى وجماهيرية، ولها حضورها التنظيمي بين العمال والمثقفين والطلاب.
في منتدى زوربا الثقافي في تونس العاصمة الذي رعى أنشطته الكاتالاني ريكارد غونزاليس، مراسل صحيفة الباييس الأسبانية، التقيت للمرة الأولى مع منذر الأعظمي. كان هذا في إحدى أمسيات عام 2017 الشتوية الممطرة. وعلى الأرجح، كان هو هناك في هذه اللحظة العربي المشرقي الوحيد. وبدا يكبرني بنحو عشر سنوات وتزيد. أو على هذا النحو تحتفظ به الذاكرة بشعر فضي فوق وجه مألوف ودود بين حضور المنتدى الأجانب. وقد جاءوا من أجل محاضرة عن أحوال مصر بعد ثورة 25 يناير، دعاني ريكارد إلى إلقائها باللغة الإنكليزية. ولعلني وجدت في هذه الدعوى فرصة للبحث عن خيوط وفرضيات تربط بين ما كتبت ونشرت عنه سابقا في وطني مصر عن "رأسمالية المحاسيب" منذ تباشيرها في ستينيات عهد جمال عبد الناصر حتى توحشت مع عهد حسني مبارك وعادت إلى الصعود لاحقا و"فاشية رثة" فيما بعد صيف 2013 وانكسار الثورة.
كنتُ متهيبا وخجلا من إلقاء محاضرة على هذا النحو، متكئا على إنكليزية لم أستخدمها شفاهة منذ زمن، مكتفيا بمطالعةٍ لم تتوقف قط للنصوص بها. ولقد وجدت في منذر نجدة من السماء خلال المحاضرة. فلم يبخل، ومن دون اتفاق مسبق، بالعون والمساندة في العثور على الكلمة الإنكليزية المناسبة الدقيقة كلما تعثرت. وبعد المحاضرة، وقبل أن نغادر منتدى تموّل تبرّعات الحضور في المكان والإبان أنشطته وتكاليف استضافة أحد نوادي تونس له مع المشروبات، دار بيننا حوار لا أنساه. وربما كان اللبنة الأولى لتقاربنا وصداقتنا.
كلانا خدعتنا ثقتنا وأملنا في مواصلة الأشقاء التوانسة الصعود في طريق الديمقراطية الشاقّ الصعب
سألني دهشا: كيف لمراسل "الأهرام" في تونس الذي كنته أن يجاهر بهذا الكلام؟ وألا أخشى من عيون السفارة المصرية وآذانها؟ وكان علي حينها أن أؤكد على ما نبهت إليه مستهلا المحاضرة، أنني أتحدث هنا متخليا عن صفة "مراسل الأهرام"، معبرا عن قناعاتي واستنتاجاتي الشخصية، ومستعيدا هوياتي الأصيلة إنسانا ومواطنا وكاتبا وباحثا صحافيا مصريا، أعي ذاتي مهنيا مستقلا ليس إلا. كما ضحكنا معا عندما شرحت له خصوصية علاقتي بـ "الأهرام"، المؤسسة التي تجعلني أشبه بزميلي ريكادر، بمثابة "كاتالاني في الأهرام". وكذا حاولت في حضور منذر حائرا البحث عن تفسير لقرار إدارة المؤسسة بانتقالي من مقر الصحيفة في القاهرة إلى تونس بأنه "نصف مراسلة/ نصف إبعاد". وأيضا لأني، وفي ظل ما يجرى لمصر والمصريين، "محظوظ"، بل و"محظوظ جدا" أو "مشمول برحمة إنسانٍ ما هناك"، وخصوصا أن القرار جاء وأنا على بعد عشرين شهرا من بلوغ الستين. وهذا وبعدما ارتكبت "حماقات" و"استفزازت" عديدة، غير مقبولة في نظر أصدقاء وزملاء من صحافي يعمل في صحيفة مملوكة للدولة.
عندما زرت منذر في شقّته ومستقره بتونس، كان كل حديثه في غير الشؤون العامة عن زوجته ورفيقة حياته، هيفاء زنكنة، وعن كتاباتها وأعمالها الأدبية. وهي أهدت لي حينها كتابين لها. ووجدت لاحقا في أحدهما عزاءً ودعما نفسيا محتملا لأمهات أحبتي أصدقاء وزملاء من معتقلي وسجناء الرأي في مصر وزوجاتهم، فدفعت به إلى إحداهن، على أمل أن تمرّره لأخريات. وهذا لأن كتاب "حفلة لثائرة: فلسطينيات يكتبن الحياة" نتاج ورشة كتابة إبداعية، رعتها هيفاء زنكنة لنساء عشن تجربة الاعتقال القاسي في سجون الاحتلال الصهيوني. ولفت نظري، وعلمت متأخرا، أن منذر، الذي لم يحدثني كثيرا عن نفسه، هو في الأصل عالم مهم في تعليم الرياضيات وباللغة الإنكليزية. اكتشفت هذا قبل شهور فقط، عندما وضعني بين قائمة بريد إلكتروني تلقت رسائل تتضمن أبحاثه ومقالاته العلمية. وأظن، ويا للأسف، أنه لا وطنه العراق ولا أي بلد عربي آخر استفاد منها، ومن علم رجل معطاءٍ متواضع، آثر إعطاء الأفضلية والاهتمام أولا لزوجته كاتبه وأديبة، وكما عاينت بنفسي.
كان له موقف مناهض للغزو الأميركي البريطاني للعراق. وكان من بين عراقيين في المنفى أعلنوا في سبتمبر 2002، مذكرة ضد الحرب بعنوان "ليس باسمنا"
لم أعرف منه أيضا أنه من عائلة عراقية أرستقراطية عريقة. وأخال إنه كان في إمكانه أن يعود ليلعب دورا سياسيا وفي الدولة، استنادا إلى روابط وعصبيات كهذه لا تخلو من أوزان طائفية. لكن اليوم يحضرني بقوة نقاش ممتع معه سيرا على الأقدام في دروب مدينة تونس العتيقة، بمناسبة إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية مايو/ أيار 2018. كان مهموما بأن يتطوّر في وطنه مجتمع مدني غير طائفي، على غرار حالة تونس بعد ثورة شعبها. وفي حواراتٍ امتدّت لاحقا، أخذ يبسط أمامي تباشير مولد هذا المجتمع في العراق، ومعيقاته أيضا، وبخاصة بين الشباب عابري الهويات الطائفية.
كان آخر لقاء معه في تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، مع الانتخابات التشريعية والرئاسية في هذا البلد. وأعترف بأننا كلينا خدعتنا ثقتنا وأملنا في مواصلة الأشقاء التوانسة الصعود في طريق الديمقراطية الشاقّ الصعب. حقا لم نتوقع ما لحق بديمقراطية تونس الوليدة تاليا، وبما في ذلك ما حاقها على أيدي الرئيس الجديد أستاذ القانون الدستوري المنتخب ديمقراطيا على نحوٍ لا يعرفه العالم العربي.
وارى الأصدقاء وزوجته جثمان العزيز، منذر الأعظمي، في الثرى ظهيرة السبت 12 مارس/ آذار 2022 في مقبرة الجلاز في تونس التي أحبّ وأمل معي أن تكون إشعاع ديمقراطية ناجحة مثمرة في ظلام عالمنا العربي وتخلفه، فوداعا، أيها الراحل الذي حفر عميقا في العقل والوجدان والضمير.