المرزوقي و"قضاة السلطة"
كان الإعلام في تونس، في أغلبه، ومنه الصحافة الأقرب إلى الرصانة، في غضون الانتخابات التشريعية والرئاسية خريف 2014، ضد الرئيس منصف المرزوقي، وقد انزلق هذا الإعلام إلى افتراءات واتهامات كاذبة ظالمة، مع انحياز سافر وفج لخصمه في السباق الرئاسي الباجي قايد السبسي وحزبه نداء تونس". وهنا يجب أن أشهد، وكنت في تونس لتغطية تلك الانتخابات، بأنّ الرئيس المرزوقي، وبخلفيته الحقوقية ومعارضته لاستبداد ما قبل الثورة، لم يلجأ إلى القضاء في مواجهة صحافي أو مدوّن. بل كان قبلها قد بدا متردّداً وليّناً أكثر مما ينبغي عندما سحب من التداول والتوزيع "الكتاب الأسود: منظومة الدعاية تحت حكم بن علي" وإن تسرّب إلى شبكة الإنترنت على نحو أو آخر.
وفي سياق هذه الانتخابات، أتذكّر أنّ رجل الأعمال المصري، نجيب ساويرس، المقرّب للسلطة في بلاده زار السبسي بين الانتخابات التشريعية والجولة الرئاسية الأولى. وصدرت عن اللقاء، وفي هذا التوقيت، تصريحاتٌ اختلطت فيها وعودٌ بأموال الاستثمار بالدعم السياسي للمرشح الرئاسي ولحزبه ولما يمثله. ولا أعرف أنّ الرئيس المرزوقي لجأ إلى إجراء قضائي أو غير قضائي إزاء ما بدا تدخلاً أجنبياً سافراً في سياق العملية الانتخابية في تونس. ولم يلجأ إلى قاموس التخوين وقرع طبول الوطنية التحريضية الزائفة المدّعاة، على غير ما يفعل اليوم الرئيس قيس سعيّد وداعموه من قوى نظام بن علي ورموزه وأنصار الاستبداد في عالمنا العربي. ومعلوم أنّ الرئيس السبسي رفع، خلال عهدته، دعوى أمام القضاء ضد مواطن أخذ في التحريض عليه شخصياً وكذا عائلته. والأهم أنّ رئيس الدولة خسر القضية في الاستئناف بحلول يناير/ كانون الثاني 2019، في سابقة عربية تناقلتها وسائل الإعلام العالمية، أضيفت وقتها إلى ما أطلق عليه "الاستثناء التونسي" محل الفخر والتباهي المحلي حينئذ. وهذا قبل أن يتلبس الافتراء والجنون قطاعاتٍ من نخبة البلاد مع حملات تشويه وتعميم ساذجة، بلغت حد إطلاق أوصاف اختزالية، من قبيل "العشرية السوداء" و"أسوأ دستور". ومؤسفٌ ومؤلم، بل وطريف أيضاً، أن يكون بين مروّجي هذه الأوصاف غير الموضوعية وغير العلمية والظالمة من كانوا يفخرون بالمشاركة في إدارة السنوات العشر حكومات وبرلمانات وهيئات وبناء توافقات سياسية وثقافية وصياغة دستور 2014.
أمور القضاء في تونس، وفي علاقاته بالسلطة السياسية، كأنّها تتدهور وتسوء على نحو سريع وكارثي، وفي سياق سلبي شامل ضاغط
ويبدو أنّ أمور القضاء في تونس، وفي علاقاته بالسلطة السياسية، كأنّها تتدهور وتسوء على نحو سريع وكارثي، وفي سياق سلبي شامل ضاغط. وتكفي الإشارة إلى محاكمة مدنيين عديدين، بمن فيهم نواب برلمان وصحافيون، أمام القضاء العسكري. وهكذا أصبحنا من بعيد نخشى على قضاء تونس من مصير قضاء مصر، وقد أساء إليه كل هذا التوظيف السياسي في خدمة السلطة وضد خصومها ومعارضيها، ومن أجل إشاعة الخوف في المجتمع وإرهاب المواطنين بدعوى استعادة "هيبة الدولة"، بعد ثورةٍ مغدورةٍ كان طموحها تحقيق توازن مختلّ وظالم بائس بالأصل بين المواطن والمجتمع من جهة وسلطة الدولة من جهة أخرى.
ما يجري للقضاء والقضاة في تونس، وعطفاً على حال مصر، يدفع حقاً إلى الخوف والتحسّب من مصير مماثل، فقد حلت مصر في المرتبة 136 عالمياً والأخيرة عربياً من إجمالي 139 دولة، في نزاهة القضاء وحكم القانون، حسب المؤشّرات الأحدث لـ "مشروع العدالة العالمي" الصادرة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فيما احتلت تونس المرتبة 65 عالمياً والثالثة عربياً. والقضاء في تونس، في الأصل وقبل إعلان الرئيس سعيد في 25 يوليو/ تموز الماضي إجراءاته، يعاني من أوضاع هشّة، أو لنقل من "تطور يتسم بالهشاشة" مع بعض ما تحقق بعد الثورة من إيجابيات هنا وهناك، مثل انتخاب أغلبية أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ورئيسه، ومع تركيبة تضمن قانوناً إلى حدّ ما استقلاليته بعيداً عن رئاسة رئيس الدولة وعضوية وزير العدل كما كان، وإن كانت هناك انتقادات لما أسفرت عنه نتائج انتخاب أول مجلس في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 من نفوذ "لقضاة تعليمات" زمن ما قبل الثورة.
غياب الإرادة السياسية مبكراً في تطهير القضاء من "قضاة التعليمات"، وغيره، أضعف الأثر الإيجابي لاستعادة جمعية القضاة التونسيين بعيد الثورة مجلسها الشرعي
ولا يتوقف الأمر فقط على الإبقاء على ترسانة من النصوص القانونية غير الديمقراطية، والمنافية للعدالة واحترام الحقوق والحريات، وبما يناقض دستور 2014 وقوانين صادرة بعد الثورة، بل كان أن لمست بنفسي ما يشعر به أهالي شهداء الثورة وجرحاها من مظالم القضاء العسكري، وتكريسه إفلات القتلة والجلادين من العقاب. ويبدو أنه مبكراً غابت إرادة سياسية أكيدة وثابتة لتحرير القضاء واستقلاله. وهذا وفق حوار أجريته مع القاضية ورئيس جمعية القضاة حينها، كلثوم بن كنو، ضمّنته في كتاب صدر من القاهرة وصفاقس عام 2012 بعنوان "نظرتان على تونس من الدكتاتورية إلى الديمقراطية". وكانت قد استقالت من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة احتجاجا على تأجيل ملف إصلاح القضاء وإهماله.
غياب الإرادة السياسية مبكراً في تطهير القضاء من "قضاة التعليمات"، والتلكؤ في إنهاء هيمنة السلطة التنفيذية والسياسية وتأثيرها على النيابة العمومية، وصولاً إلى شبهات التوظيف السياسي للقضاء والقضاة مع توالي حكومات بعد الثورة، وإبقاء عديد من قضايا الرأي العام سنواتٍ طوالاً من دون حسم في المحاكم هذا كله وغيره، أضعف الأثر الإيجابي لاستعادة جمعية القضاة التونسيين بعيد الثورة مجلسها الشرعي الذي خاض معركة استقلال القضاء في توقيتٍ مماثلٍ تقريباً لذروة حركة استقلال القضاء في مصر عام 2005. وثمّة دراسة مقارنة مهمة صدرت عام 2016 من منظمة "المفكرة القانونية" فرع تونس تستحق القراءة والمراجعة اليوم، للباحثين سامر غمرون ونزار صاغية، بعنوان "القضاء العربي في زمن الاستبداد: قضاة تونس ومصر بين قواعد المهنة وضرورات السياسة" وتغطي الفترة إلى العام 2013. والطريف أنّها تحلل اجتماعياً ونفسياً شخصية القاضي بين "قضاة الحكومة" و"القضاة المنسجمين" و"القضاة الإصلاحيين والمستقلين والمشاكسين". وتطرح قضايا مهمة تتعلق بالعلاقة مع السلطة السياسية والثقافة العامة والقانونية، ومدى إمكانية الحديث عن حركة استقلال في الجسم القضائي، وليس مجرّد قضاة مستقلين.
يبدو أنّ تونس اليوم، وكما غيرها من المجتمعات العربية، في حاجة لمن يضع المرآة غير المجاملة أمام كلّ طاغيةٍ أو مشروع طاغية
من البديهيات أنّ إصلاح القضاء في تونس، كما في غيرها من المجتمعات العربية، فرض واجب وشرط لازم لإنصاف المواطن واحترام حقوقه، وللتقدّم نحو الديمقراطية واللحاق بالعصر. وبالطبع، لمواجهة الفساد بمختلف أشكاله، سياسياً وغير سياسي. وعندما يتحوّل "إصلاح القضاء" إلى شعار يغطّي حقا يُراد به باطل، ويجري توظيفه ضد خصوم السلطة السياسيين ومعارضيها، وفي سياق إعادة إنتاج الحاكم الفرد مطلق الصلاحيات والسلطات، ومع قرع الطبول الجوفاء "لاستعادة هيبة الدولة" فقل على القضاء واستقلاله وما تبقى من استقلال القضاة السلام.
وعلى الرغم من توالي القرارات الصادمة الجائرة من محاكم في تونس هذه الأيام، فإنّ هناك بعض مظاهر مقاومة، وكما تتجلى في مواقف المجلس الأعلى للقضاء متصدّيا لنيات الرئيس قيس سعيّد، ومحذرا من خطورتها. وفي هذه اللحظات الصعبة العصيبة للقضاء والعدالة في تونس، نترحّم على القاضي الجليل، المختار اليحياوي، الذي جاهر، في رسالةٍ مفتوحةٍ صيف 2001، إلى الرئيس بن علي "بسوء وصاية وعواقب السلطة التنفيذية والأمنية على القضاء والقضاة". ويبدو أنّ تونس اليوم، وكما غيرها من المجتمعات العربية، في حاجة لأكثر من "يحياوي" يضع المرآة غير المجاملة أمام كلّ طاغيةٍ أو مشروع طاغية.