ما معنى أن تنجح القمّة العربية؟
تلتئم في الجزائر مطلع الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني) القمّة العربية بعد توقف دام عامين بسبب جائحة كورونا، لكن أيضاً بسبب الخلافات العربية البينية التي لا تنتهي إلّا لتبدأ. اختارت الجزائر لهذه القمة موعداً لانعقادها يصادف ذكرى اندلاع حرب التحرير الجزائرية عام 1954، التي أدّت، بعد ثماني سنوات من الثورة والمقاومة الشعبية التي ذهب فيها مليون ونصف مليون شهيد، إلى نيل الجزائر استقلالاً سياسياً حقيقياً منتزعاً بقوة السلاح ومستحقاً بدماء الشهداء وتضحيات المناضلات والمناضلين الجزائريين، وهو ما أكسب الجزائر دولة وشعباً المكانة والتقدير والاحترام الذي ظلت تحظى به، ليس فقط لدى شعوب الدول العربية، بل عبر العالم. وربما أراد القادة الجزائريون باختيارهم تاريخ استقلال بلادهم موعداً للقمة العربية المقبلة أن يرسلوا أكثر من رسالة إلى شعوب المنطقة العربية، أنّ الاستقلال السياسي الحقيقي وتقرير مصير الشعوب هو الذي تصنعه بإرادتها الحرّة وقدرتها على صياغة مستقبلها بنفسها، بعيداً عن إملاءات الخارج والتعويل على دعمه ومساعدته، لأنّ القوى الأجنبية "الداعمة" ليست مصالح خيرية، بل تسعى وراء مصالح شعوبها ومنافعها.
لكن، لن يكفي استحضار الماضي ورموزه، حتى لو كان هذا الماضي ثورة المليون ونصف مليون شهيد، لرفع التحدّيات الكبرى التي تواجه المنطقة العربية ودولها وشعوبها في فترة يشهد العالم فيها مخاضاً عسيراً، إذ يحتضر النظام العالمي الذي كان قائماً، فيما يُنتظر ميلاد آخر ما زال غامضاً ومجهولاً. فعلى المستوى العربي، تعقد القمة المقبلة في أجواء عربية يطبعها الالتباس في المواقف والخلاف بين أكثر من دولة عربية، فيما تريدها الجزائر فرصة للمّ شمل العرب وتوحيد صفهم، وهو الهدف الذي سعت لتحقيقه كلّ القمم العربية، بلا استثناء، حتى استحال إلى مجرّد شعار فارغ من كلّ معنى. وإذا كان هذا الهدف لم يتحقق في الماضي، عندما كانت الخلافات البينية العربية أقل حدّة مما هي عليه اليوم، فكيف يمكن تصوّر لمّ الشمل العربي في ظل الحروب الأهلية التي تشهدها أكثر من دولة عربية في ليبيا وسورية واليمن، وما تثيره تلك الحروب من تدخّلات أجنبية، بعضها من دول عربية؟ وكيف سيتحقّق توحيد الصف العربي، في وقتٍ نجح الكيان الصهيوني في إحداث انقسام حادّ داخل هذا الصف، واخترق أكثر من دولة عربية، وأبرم معها اتفاقات شراكة وتعاون تحقّق كل يوم تقدّماً أحسن من كل الاتفاقات المبرمة بين دول عربية منذ تأسّست جامعتها قبل 77 عاماً؟ وأخيراً، كيف سيكتب لهذه القمة تحقيق هدفها في ظل حالة الفوضى العالمية التي أحدثتها الحرب الأوكرانية التي أربكت الاصطفافات التي كانت قائمة، وأدخلت المنطقة مرحلةً من التجاذبات الجديدة، يطبعها اللايقين والشك، في انتظار أن تتّضح الصورة؟
كلّ القمم التي اعتبرت ناجحة في حينها أثبت التاريخ فشلها، لكون توصياتها لم تتحقق على أرض الواقع
في الماضي، كان نجاح القمم العربية يُقاس، أولاً، بعدد القادة الذين يحضرون مؤتمراتها، فمستوى التمثيل الرسمي لكل بلدٍ يأخذ بعده الرمزي، والغياب سواء كان مبرّراً أو غير مبرّر يفتح المجال لتأويلاتٍ كثيرة بشأن أسبابه ودوافعه ومراميه. أما المقياس الثاني لنجاح القمم العربية، فهو سير أشغالها ونوعية وعدد الكلمات والخطب التي ألقيت فيها، وعدد المصافحات على هامشها والصور العائلية للمشاركين فيها وعدد الجلسات، وأحياناً عدد الأيام التي استغرقتها أعمالها، كلّها مؤشّرات للحكم على مدى نجاح قمة عربية أو فشلها، وأخيراً تعتبر التوصيات الصادرة عنها أو بيانها الختامي الغاية التي يمكن من خلالها تقييم كلّ قمّة والحكم عليها.
وبالنسبة إلى قمة الجزائر المرتقبة، يقلل إعلان ستة قادة عرب الغياب عنها من أهمية ما يُنتظر منها، ورفعها شعار "لمّ الشمل" يجعل الهدف في ظلّ واقع عربي ممزّق ومتردّ بعيد المنال في ظلّ الظروف الكارثية للعلاقات العربية البينية والواقع الحالي الذي يطبعه التمزّق والتشرذم والصراعات، بل والحروب داخل دول عربية أو بين دول عربية. أما التوصيات المرتقبة إن لم تلغَ القمة أو تؤجّل في آخر لحظة، فلن ترقى إلى ما صدر في السابق عن قمم وصفت بالناجحة، وكيفما كانت قوتها لن يختلف مصيرُها عن مصير ما سبقها من توصياتٍ صادرة عن قمم عربية بقيت مجرّد حبر على ورق، حتى طواها النسيان أو ناقضها تبدّل لأحوال المواقف وتغيرها.
أكثر القمم العربية نجاحاً هي أكثرها فشلاً
لم تعد القمم العربية تثير اهتماماً كثيراً، سواء داخل المنطقة العربية أو خارجها، إلى درجة أنّ انعقادها أو تأجيلها لم يعد ذا موضوع، وأصبح السؤال يطرح بشأن مدى الجدوى من استمرار انعقادها في ظل استمرار التمزّق العربي وانهيار النظام الرسمي العربي القديم منذ غزو العراق الكويت. وإذا كانت جامعة الدول العربية عنوان وحدة العرب، وأحد أهم القرارات العربية التي صمدت أمام عامل الزمن، فما الذي حقّقته على أرض الواقع للمواطن العربي على امتداد 77 عاماً من وجودها؟ يكاد يكون الجواب بلا تردّد هو لا شيء. ويبقى القول إنّ أكثر القمم العربية نجاحاً هي أكثرها فشلاً، لأنّ كلّ القمم التي اعتبرت ناجحة في حينها أثبت التاريخ فشلها، لكون توصياتها لم تتحقق على أرض الواقع، بل جرى تبنّي سياسات وقرارات مناقضة لها. ولن يختلف الحال مع ما سيصدر عن قمة الجزائر التي نتمنّى لها في كلّ الأحوال نجاح الانعقاد، وبمن حضر، فهذا أصبح هدفاً وغاية في حد ذاته!