ما بين غزّة والخرطوم... وهؤلاء النبيلون الثلاثة

13 نوفمبر 2023

كمال الجزولي ومحمد طه القدال وهاشم كرار

+ الخط -

"الحقيقة لا تنمو جيداً إلا على التربة المروية بمطر دمائنا الغزيرة، بينما تذهب دماؤهم الفاسدة سدى". (مكسيم غوركي، رواية الأم)
لم يندمل جُرحنا ولم يبرأ سقمنا من موت محمد طه القدال، حتى فُجعنا بموت كمال الجزّولي ومن قبله هاشم كرار. يظلّ النبل الإنساني والأصالة السودانية والوطنية العقد الناظم بين هؤلاء النفر الكرام، وإن تمايزوا في العطاء وتباينوا في مضمار الوفاء. وأنا أستعرض سيرة هؤلاء الأفذاذ أحسّ بحُزن شخصي على فقدهم، وأتأمل حجم الخسارة التي مُني بها الوطن لرحيلهم في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، فالوطن أحوج ما يكون للمفكرين والمبدعين، خصوصا في لحظات الضياع المعنوي والشتات الحسّي. ذلك أنهم يعطون معنى للصمود ويشحذون همّة الوطنيين للمثابرة، كما يدعمون حجّة المرافعة في وجه الطغيان.
عزاؤنا أنهم، وإن غيّبهم الموت، ستظل أصداء موسيقاهم تشنف أسماعنا عند ترداد النشيد الوطني. فها هو الشعب الفلسطيني البطل يستدعي أشعار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وأفكار إدوارد سعيد، وروايات غسان كنفاني والمصرية رضوى عاشور وقصصهما، وهكذا هو حال المقاومين الوطنيين في كل العهود وكل الأقطار: إنهم لا ينامون في قبورهم، وإنّما ترفرف أرواحهم في عليائها يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم "ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون". 
لقد وضعت حرب غزّة اليسار العالمي، والأوروبي خصوصا، في مأزق أخلاقي رهيب؛ إمّا مجاراة اليمين في صلفه وغلوائه التي تتطلب الوقوف مع إسرائيل من دون تحفّظ، وبالتالي خسران اليسار الاتساق مع تاريخه ومبادئه، أو اتخاذ موقف مبدئي من حرب الإبادة الحالية وخسران الانتخابات التي يلعب اللوبي الصهيوني فيها دوراً أساسياً وحاسماً. وها هم اليهود يضعون البشرية في مفاصلة حرجة للمرّة الثانية: إمّا خذلانهم والانتصار للقيم الإنسانية أو نصرتهم ووضع البشرية على حافّة الانهيار المؤسسي والأخلاقي. 

جاء اليمين الأيديولوجي متبجّحاً ومتوشّحاً بالهتاف الديني، لكنه أهمل دور الدولة والمجتمع في تحقيق التكافل

لقد ربطتني بثلاثتهم، كمال وهاشم والقدال، صداقة تعمّقت أوشاجها وقويت أواصرها بحكم القرب الروحي، وإن تفاوتت مدتها وتباينت مواقفها. لقد صحبني القدال إلى دار الرزيقات عام 2007، وهناك تغنّى الناس بأشعاره في "مهرجان الضعين الثقافي"، استمتعوا برفقته في المنتديات والأسواق، فتارة يلبّي دعوة الشيوخ وتارة يصحب الشباب يستمع لرؤاهم، ويأنس لمناشدتهم إياه كي يرسل أشعاره التي تدعو إلى المحبة والسلام. أمّا هاشم، فما زلت أفاخر بأنه "ود حجّتي"، فقد رأيت عند النفرة من عرفة، في إحدى السنين، رجلاً أشعث أغبر، فقلت في نفسي هذا لو أقسم على الله لأبرّه، لحقت به فإذا به هاشم كرار! رجعتُ إلى الدوحة، وسألت عن سيرته التي ربما منحته القربى مع كونه نبيلاً وأميناً، فقال لي أحد ندمائه المقرّبين إنه كان بارّاً بوالدته. من كان بارّاً بوالدته حريُّ به أن يكون بارّاً بوطنه وندياً في معشره. ألا رحم الله هاشماً، وأسكنه فسيح الجنات.
أما ثالث الثلاثة المتبتلين في محراب الوطن فهو كمال الجزّولي، الذي حرصت على التعرّف إليه عند رجوعي من الولايات المتحدة عام 2005. بادرتُ بإهدائه كتاباً عن العولمة والإرهاب (Thinking Past Terror: Islamism and Critical Theory on the Left) لإحدى الكاتبات اليساريات الأميركيات Susan Buck-Morss، إذ لفتني الشبه في الأسلوب في الكتابة بينها وبين المرحوم كمال. استأذنتُ عليه في منزله في الهجرة أول يوم، فاستقبلني ببشاشة وبساطة جعلتاني آلفه منذ اللحظة الأولى، ومن حينها، كنت أتفقده وأتعهده بالزيارة في البيت أو المكتب أو السؤال عبر الوسائط كلما حضرتُ إلى الخرطوم. كان كثيراً ما يُناصحني ويحثّني على المثابرة والمواظبة في الكتابة. كانت أول وصاياه لي، عندما توثقت صداقتنا، وقد لاحظ كثرة الهجوم عليّ من جهات مختلفة، هي الثبات على المبدأ وعدم التلجلج أو التأثر بالانتقاد الذي قد يوجهه بعض السودانيين جزافاً أو تعمّداً، كي يحيد الكاتب عن موقفه، فيكون حينها مدعاة للسخرية أو الشماتة. وقال لي بالنص: "هم يكرهون الرجل القويّ لكنهم يحترمونه". اكتشفت لاحقاً أنهم يكرهون الحجّة القوية لأنها تكشف ضعفهم، ويحترمونها لأنها الحيلة التي تجمع شملهم.
يجب أن أبين الفرق بين كمال وأبناء جيله، أمثال عبد الله علي إبراهيم وحيدر إبراهيم علي... كمال مربٍّ حصيف، وأولئك معلمون جيدون. والفرق واضح. كمال يتعهّد أصدقاءه بالنقد العلمي والموضوعي ويناقش أفكارهم ويرشد توجّهاتهم حتى تتلاءم مع مواهبهم ومقدّراتهم. لا يعمل بمفرده، إذ النقابة هي ساحة تبتله، كما لا يسعى إلى ترويج ذاته، مقارنة بكثيرين من أبناء جيله من النابهين، إنما ينقّب عن الملكات في الجيل الذي يليه، إذ هو كثير البحث عن حملة الراية، ولا يحفل بأبواق الدعاية، بل يحتقرهم. صحيحٌ أنه معتدٌّ بنفسه، وفيه حدّة في الطبع، ربما زادت مع السجون والأمراض والكرب الذي أصاب الوطن، لكنك متى ما تجاوزتَ هذه الهالة، تعرّفت إلى حالة أشبه بأحوال المتصوّفة في الرقّة والذوق والرهافة والدعابة والصرامة مع الأدب الجمّ.

خسر العالم بموت اليسار منظومة قيمية إنسانية كانت تسعى لتحرير الشعوب من ربقة العبودية

هنا تستوقفني ظاهرة مهمة، أن كثيرين ممن ينتمون إلى الإسلام بعمقه الفلسفي والفكري، مثل اليساريين السودانيين، قد يهملون الشعائر التعبّدية، وكثيرون ممن يتشدّقون بالإسلام بمعناه العبادي يهملون المعاملات التي هي محور التوحيد ومناط التكليف الرسالي المحمّدي. (للمعاملات مردود جماعي، أما العبادات فمردودها فردي، الأولى لا تسقط الأخرى. أمّا الأخرى فتظل ناقصة حال اكتفائها بذاتها). لن تُكتب للسودانيين النهضة، حتى يعالجوا هذا الفصام تربوياً وتعليمياً وإعلامياً. لقد عَنى اليسار بدور الدولة في تحقيق الاشتراكية التي هي أخت التكافل، كما عنى اليمين، الصوفي خصوصا، بدور الفرد والجماعة في تحقيق التكافل. جاء اليمين الأيديولوجي متبجّحاً ومتوشّحاً بالهتاف الديني، لكنه أهمل دور الدولة والمجتمع في تحقيق التكافل، بل غذّى روح الفردانية، إذ اتبع النظام الرأسمالي من دون أن يُعنى بنقده أو يحفل بتفكيك منظوماته التآمرية، التي تتبع نهجاً قديماً في استرقاق الشعوب، وتُمْعِن في استتباعها حركة رأس المال العالمي، أو ما يسمّى زوراً وبهتاناً العولمة.
لقد خسر العالم بموت اليسار منظومة قيمية إنسانية كانت تسعى لتحرير الشعوب من ربقة العبودية، ومن قبضة اليمين الذي كان حليفاً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى آخر لحظة، وسيظلّ حليفاً للصهيونية حتى يلفظ آخر جندي إسرائيلي أنفاسه في فلسطين الحرّة الأبية.
لقد ظل اليمين الإسلامي، حتى زمنٍ قريب، متحالفاً مع الإمبريالية العالمية، ما ساعده على دحر اليسار سياسياً وعسكرياً (لم يخل من حماقات عجلت بوفاته)، ومن ثم أعانه على وأد حركة التنوير في العالمين العربي والأفريقي. بالرغم من ذلك، ظلّ اليسار مهيمناً على حركة الإبداع بأشكاله كافة، فيما ظلّ اليمين مستعيناً بالغيبيات ومطمئناً لمسلّماتها، وأحياناً ما يسعى إلى تقديم بعض النماذج الباهتة والتجارب الخجولة، مثل فرقة نمارق في سودان الإنقاذ، التي سرعان ما خفض بريقها وانحسر، إذ لم تستطع أن تخاطب الوجدان الشعبي المفعم بأغاني وردي وأبو عركي البخيت ومصطفى سيد أحمد، إيقاعات عقد الجلاد، أشعار محجوب شريف وعالم عبّاس ومحمد حسن حميد، فكر محمد عبد الحي والنور عثمان أبّكر ومحمد أبو القاسم حاج حمد، فنون إبراهيم الصلحي ومدائح البرعي (رضى)، إلى آخره من المبدعين الذين أثروا الوجدان السوداني، وعمّقوا في أنفسنا حبّ الله، الفضيلة والوطن.

تأثّر اليسار السوداني بتقلبات الدهر، وانحطّ حتى رأينا بعضاً من رموزه متحالفين مع النيوليبرالية والصهيونية العالمية

 لقد تأثّر اليسار السوداني بتقلبات الدهر، وانحطّ حتى رأينا بعضاً من رموزه الذين وسِموا بأنهم "قادة المجتمع المدني" في السودان (أديس أبابا، أكتوبر/ تشرين الأول 2023) متحالفين مع النيوليبرالية والصهيونية العالمية، ومتخلين عن قيم الأولين في النزاهة والوطنية والعزم على مناهضة الإمبريالية العالمية مهما كلف الأمر، دعك من السماح لها بالدخول والتمدّد في ربوع البلاد بكل أريحية واطمئنان. جاءت قوى الحرية والتغيير وعبد الله حمدوك محمولين إثر ثورة ديسمبر المجيدة على أكتاف الفقراء، فإذا بهما يتحالفان مع الرأسمالية النهبوية، ويطلّان على الشعب بوصفة اقتصادية أقلّ ما يقال عنها إنها لم تراع الظرف السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي. لقد جاءت الحرب، إذاً، نتيجة الاستهتار والإخفاق في إدارة الدولة، ما حدا بالعسكريين إلى استلام الحكم متعللين بعجز المدنيين، وقد كانت هذه حقيقة، إلا أنهم استخدموها ذريعة لتكريس سلطتهم والاستعانة بحلفائهم القدامى، ما ساعد في تأجيج الحرب، وأدّى إلى استعار أوارها. وها هي المجموعة العاجزة نفسها تطلّ علينا من جديد، من دون وجل أو خجل، يساعدها في ذلك اليمين المتهافت الذي لا يحمل فكراً أو وعياً، إنما حرصاً للحفاظ على منجزاتٍ تاريخية واهية ومكتسبات حزبية بالية.
كانت فكرة كونفيدرالية المجتمع المدني رائدة قدمها المرحوم كمال الجزولي، وأشرف على التخطيط لها المرحوم أمين مكي مدني، لكنها نفّذت بطريقة خاطئة، جعلت الغلبة فيها للجمعيات المدينية الوسط خرطومية التي يعتمد أعضاؤها سبلاً غير ديمقراطية في إدارة شأنها الخاص، كما تتبع حيلاً تعسفية في إدارة الشأن العام، فهل سيقبل الريف بعد انتفاضته أخيرا (انقلاب/ تمرّد) وصاية المجموعة نفسها التي قادها حمدوك في الفترة الانتقالية، ورجوعها خِلسة من النافذة بعد أن طردها "الجيل الراكب راس" عُنوةً من الباب؟ 
دبّ خلافُ بين أفراد المجموعة المنتقاة بحذاقة وحذر بشأن رئاسة حمدوك، إذ رأى بعضهم أنه يمثل عبئاً ثقيلاً على قوى الحرية والتغيير، فيما نسوا أن الأخيرة تمثل عبئاً أثقل على السودان. كلاهما، كما اللجنة الأمنية، يجب أن تطاولهما المساءلة عقب الفراغ من هذه المرحلة، فهم مثلهم مثل "الفلول"، قد وفّروا الوقود المعنوي لحربٍ راح ضحيتها الفقراء من أبناء الريف السوداني، الريف الغربي خصوصا، فيما يطمح أمراء العقيدة والحرب والمال للاستيلاء على ما بقي من ثروات، وقد لا يكلفون أنفسهم تشييد مجرّد صرحٍ يحمل أسماء هؤلاء الجنود المستنفرين من الجيش والدعم السريع، كما تفعل الحكومات في الغرب. أليس هذا هو تاريخ الحروب في العالم؟

برهنت التجارب أنّ المعارك الصفرية لا تعود على المجتمعات الإنسانية بنتائج إيجابية، سواء على المستوى السياسي أو ذاك الفكري

ختاماً، وإذ برع يسار الستينيات متأثراً بالظرفين الإقليمي والعالمي، فقد تقهقر يسار الألفية متأثراً بالتقلبات السياسية والاقتصادية، وانزوى مؤثراً السلامة والمنفعة الشخصية على المنفعة الجماعية. وإذ تأخّر يمين الثمانينيات بعد أن قيد العقل بالوجدان (إلا من بعض النماذج مثل حسن الترابي والمحبوب عبد السلام)، فقد انعتق جيل الألفية، مثل القاسم الظافر وهشام أحمد شمس الدين والشاعر محمد عبد البارئ، إذ أيقن أن النموذج الأمثل لم يُنجز بعد، وأن سماته تلك تصعد إلى السماء بشوائبها، ولا تُجتَذب إلى الأرض بنقائها، إذ ليس بمقدورها تحمّل كمالات النموذج الإلهي. 
وإذا كانت الثقافة عماد النهضة في المجتمعات الإنسانية، فإن الأنظمة الأيديولوجية قد عوّلت على الأدلجة وسيلة لتنظيم المجتمعات في الشرق المنكوب. لقد مكث نظام الإنقاذ 30 عاماً برع فيها في خنق الفضاء العمومي، حتى مات الإبداع، إذ هاجرت الذوات المبدعة، ولجأت تلك القاصرة إلى تبنّي الفكر الأحادي، مضحّية بفرديّتها وممنية نفسها بأنشودة الخلاص الأخروي. ما السبيل لاستنهاض همّة الوسط وقد هجره المثقفون من ذات اليمين وذات اليسار؟ هل لبقائهما أثر، وما هي الوسيلة لإحداث تواصل حيوي بين المجموعتين؟ لا سيما أن التجارب قد برهنت أنّ المعارك الصفرية لا تعود على المجتمعات الإنسانية بنتائج إيجابية، سواء على المستوي السياسي أو ذاك الفكري. 
لقد تجاوزت الثورة الأطر التقليدية للتفكير، ولزم علينا تجاوز هذه الثنائيات (يسار ويمين)، والسعي إلى استيعاب روح المبادرة الوثّابة التي تبديها الأجيال الصاعدة، تلك الماهرة التي دكّت حصون الطواغيت، وكادت أن تجلي جيوشهم، لولا تآمر القوى الإقليمية والدولية. يجب أن نُبْقِي على جذوة الثورة متّقدة، رغم الخيبات والاخفاقات، فهناك جيل من الشباب برهن أنه قادرٌ على الصمود، كما يقول المناضل الثوري برير إسماعيل (جعيبات)، وألا نقبل مطلقاً باسم "الواقعية السياسية" وجود اللجنة الأمنية في المعادلة الحكمية القادمة، فمن كان مؤجّجاً للحرب لا يمكن أن يكون نبراساً للسلام والتنمية والاستقرار.

D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
الوليد آدم مادبو

كاتب سوداني، خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية

الوليد آدم مادبو