أخطار وجودية تهدّد الأمة السودانية
السودان، البلد مترامي الأطراف، ليس مجرد فجوة جغرافية، إنّما هو حقيقة تاريخية قديمة الأحلاف بديعة الأوصاف. لا أجازف عندما أصف جموع الأمم التي تحتل هذا الفضاء بأنّها ذات وجود حيوي وثقل إنساني كاد أن ينصهر في بوتقة اجتماعية واحدة، لولا فعل السياسة التي فرّقت بين بنيه على أسس أيديولوجية وأخرى دينية وافدة لم تنبع من تربته، ولم تراع خصوصيته. تتعرّض هذه المقالة إلى الأخطار التي يمكن أن تتهدد الأمة السودانية في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، وليس فقط الدولة السودانية التي قامت على أسس شابها كثيرٌ من العلل، وتناولتها فرقٌ من الأمزجة العقيمة في أغلبها.
أولاً، خطاب الكراهية المنتشر بكثافة هذه الأيام هو أحد الأخطار التي يمكن أن تنال من وحدة الأمّة. كلما تمادينا في نفي الآخر المختلف عنّا سمتاً ولفظاً بأنّه غريب أمعنا في إنكار الإشكالات البنيوية والهيكلية التي عمّقت اختلافاتنا وتسببت في تصدع وجداننا. ما الذي يجعل "الغرابي حاقداً" وسبب حقده "الجلابي المستبد"؟ ما الذي يجعل الفلاني ذا الأصول الغرب أفريقية متخلفاً وسبب تخلفه الحلبي ذو الأصول الشرق أوسطية؟ تُطلق هذه النعوت جزافاً من أناسٍ من المفترض أن يكونوا واعين بدور الاقتصاد السياسي أو الاجتماع الثقافي في إيجاد الفوارق الطبقية أو ترميمها منهجياً، من خلال الاستعانة المؤسّسية بالأدوات العلمية، حتماً ليس من خلال التلبس بالعنجهية، أو اعتماد الطرق الاعتباطية.
ثانياً، تغييب العقل عمداً أو جهلاً، والانسياق وراء العاطفة في جهد حثيث من "الطبقة المستنيرة" لتجييش المشاعر لصالح جهة من الجهات لهو أمرٌ مستقبح فيه خيانة للضمير، قبل أن يكون فيه جنحة على التفكير. يحدّثنا بعض الكتاب عن "التمرّد" و"الانفلات الأمني" متناسين أن هذه الظواهر هي وليدة السفاح الذي كانت تمارسه النخب المركزية، والعصابة الإنقاذية خصوصاً، عقوداً، في نواحي السودان المختلفة. يشمل ذلك الجنوب وغرب السودان.
خطاب الكراهية المنتشر بكثافة هذه الأيام هو أحد الأخطار التي يمكن أن تنال من وحدة الأمّة
مثلاً، عندما رفض المرحوم سعيد مادبو، ناظر قبيلة الرزيقات حينها، تجييش القبائل على أسس قبلي في حرب الجنوب الجهادية، تجاهله الرائد إبراهيم شمس الدين، أنزل الطائرة في بحر العرب ووزّع البنادق الأوتوماتيكية على من رغِب من دون الاعتناء بتدوين نمرة البندقية أو أخذ رقم البطاقة الشخصية. وعندما رفض الناظر قتال الزرقة، جرى تجاوزه والاستعاضة عنه بنخب طموحة ومتطلعة، الأهم أنّها لم تكن ذات ارتباط تاريخي ووجداني وثيق بدارفور (أو بالسودان) يمنعها من الإخلال بالعهود والمواثيق، فكانت الإبادة الجماعية.
ثالثاً، سبب تصدّع الوجدان الحالي تعويل "العصابة الإنقاذية" مدة تزيد عن الثلاثة عقود على الانقسامات واستثمارها استثماراً سلبياً للفروقات العرقية والجهوية والمناطقية. يجب أن نسعى إلى رأب الصدع معولين على الثراء الثقافي والتنوّع الوجداني، وألّا نركن للدعاوى الجاهلية التي لا تفلح إلّا في تأجيج الفتن وإشعال الحروب. دعواهم "جيش واحد شعب واحد" بلغت مسمعي، ولم تصل إلى قلبي، لأنّ كبيرهم، عمر البشير، هو من قسّم الجيش إلى مليشيات، ومن جعل شعبها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنّه كان من المفسدين.
تبدّد رأس المال الذي تراكم منذ الاستقلال أو ما قبله بقليل أمرُ يثير الحسرة وينذر بالشفقة على مستقبل السودان
رابعاً، انعدام الحسّ الأخلاقي عند النخب، غَلبة التفكير الرغائبي، وتلاشي الحسّ الثقافي والإبداعي من أخطر المهددات للأمة، لأن الثقافة، كما قال الفيلسوف المغاربي المهدي المنجرة، هي خط الدفاع الأخير، بعد أن تنهزم الجيوش وتنهدّ المدائن. للمثقف مسؤولية وطنية لا يمكنه أن يؤدّيها بأمانة، إلّا إذا وقف على أرضية أخلاقية صلبة تحول بينه وبين المزايدة في المواقف من نوع "يا معنا أو ضدنا" كالتي تروّجها الآلة الإعلامية "للعصابة الإنقاذية" التي لم تقف يوماً في خندقٍ واحدٍ مع الشعب، أو عبارة "نكون أو لا نكون" كالتي يطلقها قادة قوات الدعم السريع هذه الأيام وتتبنّاها الرعية من دون روية. متى تنكّر السودانيون لهذا الكيان؟ وهل تُخاض معارك الكينونة بمثل هذه الطرق العبثية الإجرامية؟
خامساً، تبدّد رأس المال الذي تراكم منذ الاستقلال أو ما قبله بقليل أمرُ يثير الحسرة وينذر بالشفقة على مستقبل السودان. اتصل بي Majak D’Agoot أحد أصدقائي من مثقفي الجنوب البارعين، وقال لي: يا دكتور، لقد ذرفتُ دمعاً عندما رأيت الدمار الذي حلّ بالمنطقة الصناعية بحري... ذاك رجلٌ اقتصادي وطني يعلم يقيناً أن إعادة بناء مثل هذه الصروح التي تمد السودان وجاراته بالمنتجات الغذائية والصناعية لا تجري بسهولة، فقد بُنيت بشقّ الأنفس، واستحدثت بتراكم معرفي جلّ أن يتوفر هذه الأيام. السؤال: لمصلحة من استهداف الرأسمالية الوطنية، خصوصاً التي بدّلت مواقفها وانحازت للثورة؟ لا أعتقد أنّ المتمردين أو المتفلتين يملكون مرجعية عن الخريطة الاقتصادية الاجتماعية، ولا أظنّه تداعياً تلقائياً لثلاثية "الانفلات – الفوضى - الحريق"!
سادساً، نزوح (أو هجرة) العقول النابهة، تجار واقتصاديين وصيارفة وإعلاميين وأطباء ومهندسين وقانونيين وعسكريين، وفلاسفة (إن وجدوا) ومفكّرين، هو بمثابة انهيار الجهاز العصبي الذي لن تستطيع الدولة من دونه أن تعمل أو تُفعّل. وها هم الانقلابيون من الفريقين يحتلون اليوم فضاء الخرطوم وأرضها، فيعجزون عن تشغيل الإذاعة، بل ويفتقرون إلى المشروعية الأخلاقية والسياسية المرتبطة بتسيير دولاب الدولة وتأمين احتياجات المواطنين. الأخطر أنّهم، بحماقتهم، يتسبّبون في تدمير البنية التحتية على هشاشتها، ويستهدفون من دون رشاد حتى المعاهد البحثية والدوائر العلمية.
كان انعدام التكامل الاقتصادي الإنساني سبباً في تفشي الغبن الاجتماعي وتنامي الأحقاد الطبقية التي ازدادت أخيراً
سابعاً، كان انعدام التكامل الاقتصادي الإنساني سبباً في تفشي الغبن الاجتماعي وتنامي الأحقاد الطبقية التي ازدادت في السنوات الأخيرة، بسبب سياسة التحرير الاقتصادي التي لم تراع هشاشة التكوين الاقتصادي الاجتماعي، ولم ترع بالاً لفساد المؤسسات الحكومية وضعف قدرتها على تفعيل نظم الحكامة، المتمثلة في تقنين سبل الشفافية والمحاسبية. في غياب الرقيب وحال حدوث الفوضى العارمة أيام محاكمة Rodney Glen King في ولاية كاليفورنيا (1991) رأينا النهب والسرقة في أرقى المجتمعات، بيد أن القوات الفيدرالية نجحت في درء الفتنة بسرعة، متلاشية حدوث أضرار أكثر فداحة. يتساءل المرء عن عجز الشرطة السودانية عن مجرّد حماية المؤسّسات الحيوية ساعة الحرب. هل سيجري التحقيق مع قيادات الشرطة فور رجوع الدولة للقيام بدورها، أم سيترك ذلك ليمر مثل باقي الممارسات التي تمرّ من دون مساءلة؟
ختاماً، كشفت الحرب عورات السودانيين، وأظهرت "الكوز" (لقب يُطلق على المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في السودان، وجمعها كيزان) الذي كان مندساً بدواخل كلّ واحدٍ منهم. عليهم أن يستعينوا بعلماء الاجتماع وعلماء النفس للنظر في الإشكالات الأخلاقية التي تحول دون تماسكهم أمّة من المفترض أن تكون راشدة، بالنظر إلى التجارب التي عايشتها. لا يمكن أن تحدُث النهضة إلّا بالتعويل على قيمة محورية محددة مع تلافي تلكم الخصال المرضية. توشك لحظة الانكسار هذه أن تستحيل إلى لحظة ازدهار إذا ما ناظرنا الأفق، وعاينّا تلكم اللحظات الباهرة التي تنتظر السودانيين. سنزيل كل هذه الثكنات العسكرية من ساحتنا، سنبني حديقة غنّاء في الفضاء الذي يقتتل فيه الفرقاء ولنسمّها حينها "حديقة الشعب"، كما فعل أردوغان بالساحة التي كان يحتلها مطار أتاتورك. هنا يحضرني قول الشاعر، وهل هناك أندى وأجمل من شعر محمود درويش: سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة/ حين يُعلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرة/ سنصير شعباً حين ينظر كاتبٌ نحو النجوم/ ولا يقول: بلادنا أَعلى وأجملْ.