ماذا وراء عودة بنكيران؟
تثير عودة الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية السابق عبد الإله بنكيران إلى رئاسة الأمانة العامة للحزب تساؤلات عديدة بشأن خلفياتها وتوقيتها والغايات منها. في نهاية الأسبوع الماضي، اختار المؤتمر الاستثنائي للحزب بنكيران لقيادته خلال المرحلة المقبلة، بعد الهزيمة التي مني بها في استحقاقات 8 سبتمبر/ أيلول الماضي، وأزاحته من قيادة الحكومة، ووضعته في الصفوف الخلفية للمعارضة داخل البرلمان. ثمّة من يرى في عودة بنكيران استجابة تلقائية لأصواتٍ عديدة، خصوصاً منها الشابّة داخل الحزب، والتي ترى في الرجل "المخلّص" القادر على قيادة الحزب في مرحلة صعبة، وإخراجه من المأزق الذي زجّته فيه القيادة المنتهية ولايتها. وهناك من يقرأ في هذه العودة استجابةً لرغبة من داخل الدولة العميقة في المغرب، لدفع "العدالة والتنمية" إلى ملء الفراغ في كرسي المعارضة المؤسساتية، وهي تراهن في هذا على الخطاب الشعبوي للرجل القادر على إقناع جمهوره بالفكرة ونقيضها في الآن نفسه.
وفي كلّ الحالات، ومهما اختلفت تأويلات أسباب هذه العودة التي كانت متوقعة، لأن بنكيران لم يعتزل قط السياسة، منذ أعفي من منصب رئيس الحكومة المكلف عام 2017، واستقالته العملية من مسؤولياته داخل الحزب، إلّا أنّه ظلّ طوال السنوات الخمس الماضية حاضراً داخل المشهد السياسي والإعلامي المغربي، بتصريحاته المنتقدة أداء حزبه على رأس الحكومة، ولمواقفه من مواضيع عديدة أثارت وما زالت تثير جدلاً كثيراً داخل الحزب، بسبب تناقضها مع مرجعيته الإسلامية، وما تفرضه عليه من التزامات مبدئية أخلّت بها القيادة السابقة للحزب في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من موقف.
إلى أيّ حدّ سينجح بنكيران في تحقيق تطلعات شباب حزبه الذي يرى فيه "الزعيم القائد"، القادر على العبور به من مرحلة الانكسار الحالية التي يعيشها على خلفية الهزيمة النكراء التي مني بها، وإعادة بنائه حتى يعود إلى تصدّر قيادة المشهد السياسي الحزبي في المغرب، كما كان عليه الحال طوال العقد الماضي؟ وهل تنجح المراهنة، إن افترضنا أنّ هذه العودة أوحت بها جهات من خارج الحزب، على قدرة الرجل على إعادة إحيائه، ليملأ مقعد المعارضة المؤسّساتية، في ظل الفراغ الذي تشهده هذه المعارضة حالياً، خوفاً من أن تنتقل المعارضة الحقيقية للحكومة والنظام إلى الشارع، بما أنّ الطبيعة لا تحبّ الفراغ؟ أم أن الأمر يتعلق فقط برغبةٍ نرجسيةٍ لدى الرجل الذي كان يملأ دنيا السياسة في المغرب ويشغل ناسها طوال العقدين الماضيين، في الاستجابة لأناه التي لا تستطيع العيش خارج بورصة المشاحنات السياسية، وما تفرضه من مزايدات شعبوية تلهي الناس وتشغل بالهم وتنسيهم، ولو إلى حين، واقع حالهم البائس على أكثر من مستوى؟
مستقبل بنكيران مرتبط إلى حد كبير بمستقبل حزبه، وهذا الأخير مرتبط بمستقبل الإسلام السياسي الذي يمرّ اليوم بأزمة كبيرة
ومهما اختلفت التأويلات في ترجيح أيٍّ من هذه الأهداف التي تحرّك طموح الرجل الذي يطل على عقده الثامن، بما أنّه سيبلغ السبعين من عمره خلال أيام قليلة فقط، إلّا أنّ الأهداف الثلاثة تلتقي في غاياتها وأهدافها، وهو ما يجعل من هذه العودة حدثاً سياسياً بامتياز في لحظةٍ تشهد فيها الحياة السياسية في المغرب حالة موت سريري، بعدما حَوَّل "أعيان الانتخابات" المؤسسات المنتخبة إلى مجالس عائلية ومناصب ريعية، يتقاسمها أفراد العائلة الواحدة بين الإخوة، ومع الأبناء والزوجات.
لكنّ بنكيران العائد ليس هو الزعيم الحزبي الشعبوي الذي وقف في وجه "الربيع العربي"، وعارض نسخته المغربية المتمثلة في حراك 20 فبراير (شباط 2011)، وقاد حزبه إلى الاصطفاف ضد ثورات الشعوب العربية، ما مكّنه من قيادة الحكومة المغربية ولايتين متتاليتين عشر سنوات مستمرة، وهو ما لم يتحقق لأي حزبٍ من قبله في تاريخ المغرب منذ استقلاله في نهاية خمسينيات القرن الماضي، فطوال العقد الماضي مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، وتحوّل بنكيران، رئيس الحكومة السابق، إلى عدو الطبقات الفقيرة داخل المجتمع المغربي، بسبب قرارات حكومته غير الشعبية التي استهدفت قوت بسطاء وفقراء الناس وعيشهم. كما أن بنكران الذي حمل شعار محاربة الفساد عندما كان يقود حملة حزبه الانتحابية عام 2011، سرعان ما تحوّل هو نفسه إلى مستفيد من ريع السلطة وامتيازاتها التي ما زال يرفل في نعيمها، على الرغم من مغادرته منصبه الرسمي على رأس الحكومة منذ 2017. من دون أن ننسى أن خطاب حزب العدالة والتنمية، القائم على المرجعية الإسلامية، والمكتنز بشحنةٍ شعبويةٍ مفرطة، لم يعد يجد له صدى وسط الأتباع والمشايعين، وقد أبانت الانتخابات أخيرا، على الرغم من كل ما شابها من تجاوزات، أن الحزب فقد شعبيته داخل الأوساط التي كانت تعتبر خزّانا للأصوات التي تدغدغها الشعارات الشعبوية ذات الخلفية الإسلامية، أو تلك التي توظف المرجعية الإسلامية لاستمالة عطف الناس وأصواتهم.
بنكيران لم يعتزل قط السياسة، منذ أعفي من منصب رئيس الحكومة المكلف عام 2017، واستقالته من مسؤولياته داخل الحزب
وبعيداً عن التشخيص، فإنّ مستقبل بنكيران مرتبط إلى حد كبير بمستقبل حزبه، وهذا الأخير مرتبط بمستقبل الإسلام السياسي الذي يمرّ اليوم بأزمة كبيرة، وعلى أكثر من مستوى، وفي أكثر من دولة عربية، على خلفية النكسات والهزائم والفشل الذي منيت به كل التجارب التي قادها في مصر وتونس والسودان والمغرب، فقد أثبتت كل هذه التجارب عدم قدرتها على صناعة الخلف والبديل داخل صفوفها، لذلك هي تستدعي دائما قادتها التاريخيين لقيادتها في مراحلها الصعبة. كما أنّ عدم كفاءة عناصرها وقلة تجربتها أثرت على أدائها في السلطة التي استنزفتها، وأثرت كثيراً على شعبيتها داخل بيئتها الطبيعية. وأدّى عدم حسمها في الفصل ما بين جناحيها، السياسي والدعوي، إلى جلب انتقاداتٍ كثيرةٍ لها، وحتى عندما حاول بعضها التخلي عن ذراعه الدعوي لتحسين صورته في الخارج، بدا مثل بطّة عرجاء سرعان ما تعثرت في مشيتها، وكان سقوطها مدوّياً وإن اختلفت الأسباب من دولة إلى أخرى. وأخيراً، وليس آخراً، فإنّ عدم قدرة الأحزاب الإسلامية على القيام بنقد ذاتي قاسِ، والقيام بمراجعات فكرية حقيقية، سيؤدّي بها إلى التحوّل إلى أرقام سياسية عادية داخل المعادلات السياسية في بلدانها، أو قد يٌعجّل نهايتها، على الأقل، في شكلها الحالي، أحزاباً وحركات سياسية، لأنّ قيمها ومبادئها التي تتخذ من الإسلام مرجعية لها لن تموت، وستبقى ما بقي الإنسان على وجه الأرض، بما أنّ القيم والمبادئ مثل الطبيعة لا تموت ولا تخلق من جديد، وإنّما تتحوّل لتواكب عصرها وبيئتها. وفي حالة بنكيران، الذي بدأ بتشكيل فريق عمله من قدامى حزبه، ستكون المهمة أصعب، لأنّ القليل من التجارب هي التي نجحت في صناعة الجديد بما هو قديم، وتصبح عملية الإبداع هنا أكثر صعوبةً عندما يكون هذا القديم سبباً في المشكلات المطلوب تجاوزها.