"ليكُن صباحا" .. الرواية قبل الفيلم
لم تتيسّر بعد مشاهدة فيلم المخرج الإسرائيلي، عيران كوليرين، "ليكن صباحا"، والذي عُرض، أخيرا، في مهرجان كان. واحتجّ 12 ممثلا وعاملا فيه، من فلسطينيي الأرض المحتلة في 1948، وجنسيتهم إسرائيلية، على تصنيفه في المهرجان إسرائيليا، وأعلنوا انسحابهم من فعاليات التظاهرة السينمائية العالمية. تيسّرت قراءة الرواية التي أُخذ منها الفيلم، وهي بالاسم نفسه. كتبها صاحبُها، سيد قشوع (مواليد 1975)، بالعبرية، وعلى ما أفيد (والله أعلم)، أنه الوحيد من بين الكتّاب الفلسطينيين في دولة إسرائيل يفعل هذا. أصدرتها دار الساقي، في بيروت، في 2012، بالعربية بترجمة ماري طوق (عن الفرنسية). وعلى البساطة الضافية فيها، في سرد الراوي بضمير المتكلّم، إلا أنها تنْهمّ بموضوعةٍ شديدة التعقيد، هوية الفلسطيني في دولة إسرائيل التي يحمل جنسيّتها، عندما تتصادم مع مقتضيات الانتساب إلى هذه الدولة. وإذا كان إميل حبيبي، في "الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل" (1974)، قد أقام بناءً مركّبا، وأفاد من تقنيات الحكي الموروثة، في تمثيل التعقيد الخاص لوضع هذا الفلسطيني، بسخريةٍ حارّةٍ وبديعة، سيما في الإحالة إلى مفارقاتٍ غزيرة، فإن سيد قشوع اختار النأي عن الإيحاء ومنحى التجريب ومداورة الأزمنة والأمكنة، وأخذ مسلك التصوير والتعبير المباشريْن، وبقيت المفارقات وظلالها حاضرتيْن، ليس بتوسّل التهكّم والسخرية (وإنْ تقع على شيءٍ منهما)، وإنما لقولِ ما يندُر قوله، ليس فقط عن تشظٍّ وتمزُّقٍ يُغالبه الفلسطيني المواطن في دولة إسرائيل، وإنما أيضا للتأشير إلى تشوّهاتٍ في المجتمع الفلسطيني هذا، وإلى انعدام الحساسية لدى بعض هذا المجتمع في تحبيذه العيش تحت جناح دولة إسرائيل.
تنصرف في قراءة "ليكُن صباحا" إلى منطوقٍ ظاهر وآخر مستتر، إلى المضمون العام، إلى مواقع الحيرة في التمزّق والتشظّي المشار إليهما، أكثر من الاكتراث بالمبنى العام للرواية. وإنْ يروقُ لك التوازي الذي صنعه الكاتب بين الخاص والعام، بين اليومي في المنزل مع الزوجة والطفلة وزياراتٍ عائليةٍ واليومي العام في غضون الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واحتكاكاتٍ، مسلّحةٍ أحيانا، مع الجيش الإسرائيلي. الراوي صحفي فلسطيني في مطبوعةٍ عبريةٍ (كما المؤلف الذي عمل في "كول هاعير"، ثم كاتبا في "هآرتس"، قبل إقامته حاليا في الولايات المتحدّة)، يتحدّث عن وعيه العام، عن والدِه المؤمن "إيمانا أعمى بالدولة"، ويقترع لحزب العمل في الانتخابات، وينظّم اجتماعاتٍ في المنزل، يحضرها يهود. .. من دون مواربةٍ، تقرأ في الرواية، بلغةٍ عالية المباشرة، إن الأمور التي عُدّت خيانةً في ما مضى أصبحت مشروعةً في الثمانينيات والتسعينيات، "لم يقتنع عرب إسرائيل بتقبّل المواطنة الإسرائيلية فحسب، بل تعلّموا أيضا أن يحبّوها، وخافوا أن تنزع منهم" .. "أصبحت فكرة أن يكونوا جزءا من العالم العربي تخيفهم". ليست هذه مرسلة الرواية، إذ تأتي مقاطع وفيرةٌ على التحسّب الأمني والبوليسي الواسع في "الدولة" من هؤلاء العرب، المواطنين، على حديثٍ إسرائيلي عن "طابور خامس" و"مشكلة ديمغرافية تهدّد هوية الدولة اليهودية" و"سرطان يتآكل قلب الأمة". يقع إطلاق نار على جنود إسرائيليين، فيما "ليس عندنا حماس ولا الجهاد، ولا أي جبهةٍ من أي نوع كانت .. لكن يبدو أن الجيش الإسرائيلي اخترع هذه الحجة ليقوم بأعمال انتقامية". وفي مواضع أخرى، يأتي الحكي على "زعرانٍ بدأوا يبيعون الأسلحة إلى حماس"، وجرائم ومخدّرات و"قذاراتٍ محصورةٍ في الدساكر العربية". وتنتهي الرواية بما يشبه الحلم، جلاء دبابات إسرائيل وسلطتها عن المدن والقرى العربية، عن الناصرة والطيبة وأم الفحم وغيرها، لتنتقل هذه إلى السلطة الفلسطينية. وآلافٌ من العرب الإسرائيليين في حيفا ويافا ومدن مختلطة أخرى سيبقون في إسرائيل، ولكن أوراقهم الثبوتية تصبح فلسطينية. لا يبتهج والد الراوي بهذا، يرى إسرائيل هي الملائمة للعمل والإقامة وحفظ الأمن والنظام. تبقى الأم صامتة. يرى الأخ الأمر مشيئة الله. ويجد البائع في الدكان أن "اليهود باعونا"، أما الراوي فينشغل بمقالةٍ سيكتبها.
.. هو مقطعٌ ضئيل الحضور في المدوّنة الروائية الفلسطينية (بالعبرية!)، يكتبه سيد قشوع في نص شجاعٍ يعرّفنا بما لا نعرف، نحن الذين لسنا هناك. وهو أيضا مقطعٌ ضئيل الحضور في سينما إسرائيلية الإخراج والتمويل، يتمثّل في فيلمٍ مضاد للمنظور الصهيوني، على ما عرفنا عنه، ولمّا نشاهده بعد.