لو شاهد الجبرتي كل هذه التفاهة في "التيك توك"

07 أكتوبر 2023

(Getty)

+ الخط -

كتب الجبرتي كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"؛ وهو من أهم الكتب عن الحملة الفرنسية على مصر. نتساءل، ماذا لو عاد إلى الحياة في عصر "التيك توك"، هل كان سينتظر الأوامر كي يكتب؟ وماذا سيكتب عن "غزو التيك توك" للعالم العربي؟ هل سينتظر الرقابة كي تقبل ما يكتب أو تحذفه، أم يكتب ما يمليه عليه ضميره؟ نتمنّى ألا يفعل الأسوأ؛ فيترك كتابة التاريخ وينضم للتربّح من "التيك توك".

ليست المشكلة في من "يتاجرون" بتعرية حياتهم على "التيك توك" من الجنسين وبكل الأعمار، فهذا شأنهم وهم يعرضون بضاعتهم. المشكلة "الأسوأ" في متابعيهم بالملايين أو بمئات الألوف. ويجب الاهتمام بأسباب هذه المتابعات والإعجاب والحماس لنشرها؛ هل كما قال فرانك كلارك: "السبب في انتشار الجهل أن من يملكونه متحمّسون جداً لنشره".

تُرى، ماذا سيقول الجبرتي عن الأسباب الذي تجعل رجلًا يقف بجوار زوجته في بثٍّ على "التيك توك"، وهي تقوم بروتين يومها، من تنظيف البيت وطهي الطعام، واستعراض الجسد بالطبع أمام الجميع، وكيف يشعر وهو يرى التعليقات المسيئة والمنتهكة لزوجته؟ ما الذي يدفع "إنساناً" للبقاء في بثّ مباشر في وضع القرفصاء في حوض الاستحمام ويترك الماء ينهمر عليه ويرتعش، وهو يقول: "أنا سمكة"، والكارثة في زيادة عدد متابعيه بعشرات الآلاف في أثناء البثّ؟ هل دفعهم الفراغ فقط للمتابعة، أم السخرية منه والشعور بأنهم أفضل منه؟ والشعور بالرضا "المزيّف" عن النفس كأنهم يحتاجون "بشدّة" إلى قبلة الحياة لمقاومة "بؤس" حياتهم أو انهيار أحلامهم لأسبابٍ شخصية، أو لانهيارهم أمام تحدّيات الواقع.

ماذا كان الجبرتي سيقول عن الاستخفاف بالعقول "واحتقارها"، بالزعم أن وضع لاصق من البلاستيك على الوجه يزيل التجاعيد، والكمّ الغريب من الحماس من البنت التي تروّجه، والأغرب حصدها عشرات الألوف من الإعجابات!

بدأ بعضهم بكلام محترم ولطيف، ثم لجأ إلى السوقية، ويذكرنا بكاتب راحل يصفه محبّوه "بالعرّاب"، حيث قال في لقاء تلفزيوني إنه بدأ بالكتابة عن الجرائم "ليشتهر"، ثم ليكتب بعدها ما يريد؛ في تجسيد واضح للانتهازية. ولعل هذا ما تفعله أمّ تظهر على "التيك توك" تشتري الخضراوات وتطبخ وتستغل طفلها بكلام مسيء ويبدو عليه الانزعاج، وأمّ أخرى تسخر من ابنتها، وتُظهرها ساذجة لا تعرف أبسط الأمور... هل الهدف تعليم الصغار أنه لا يهم كيف يأتي المال؟ ونرى الأسوأ منهم من يعملون "اللايكات" بالملايين؛ فكيف يفكّرون؟ فتعليقات الإعجاب بالابتذال تحتاج دراسات؛ فهل ينفذون المثَل الأميركي "إن لم تستطع هزيمتهم؛ فانضم إليهم".

نرحب بالترفيه ونراه ضرورة تتزايد مع تنامي الضغوط ونرفض "اعتياد" السفاهة وترويجها

هل سيتساءل الجبرتي: أين "النسوية" في استغلال الأطفال والنساء في "التيك توك"، أم سيفضل السكوت "خوفاً" من الصراخ ضده؟ هل سيكتفي برصد الظواهر الجديدة، وإن قلّ عددها "وكثر" تأثيرها؟ أم سيتعمّد تحليل الأغلبية الصامتة، والتي "تكتفي" بالغضب الداخلي أو التمتمة وإشاحة الوجه وعدم فعل أي شيء لإيقاف الزحف المسيء للهوية وللثقافة وللذوق العام والمجهض أي تقدّم حقيقي في كل نواحي الحياة والسارق للأعمار؟ كيف يتقدّم من يشغل بعض وقته بهؤلاء ومن يسمح بتسلّل أي ذرّة إعجاب بهم، أو كما يقال "بثقتهم" بأنفسهم وفرض ما يرغبون على المجتمعات العربية؟ هل سيُعجبون أيضاً بأي قاطع طريق "يفرض" سيطرته على المارّة؟ هل "ينسحقون" دوماً أمام أي أحدٍ يستطيع فرض سيطرته، أو إسماع الناس ما يكرهون ويتعارض مع أجنداتهم الخاصة الساعية إلى العيش كما يرغبون؟ إذا هاجمتهم جماعات الجراد على سبيل المثال؛ هل سيخضعون ويتحوّلون إلى زواحف للهرب منهم؟

هل سيدين الجبرتي الأنظمة التي لم تشغل مواطنيها بما "يأخُذ" أيديهم إلى حياة حقيقية، نابضة بالحياة لهم ولأوطانهم؟ أم سيتجاهل ذلك ويمارس "التطبيل" ويلقي اللوم كله على المواطنين؟ وماذا سيقول عن شابة تظهر أمها وهي تغنّي بمرح، ثم وهي تبكي وتعلق عليها بـ"هرمونات أمي"، وتحصد الإعجاب والضحك. وعن أم تسمح لطفلتها بالصراخ في وجهها والكلام بصوت عالٍ، لتشكو من طابور الصباح في المدرسة، ويتضاعف المتابعون لها. وعن سيدة تجاوزت الخمسينات ترتدي ثوب زفاف، وتضع مساحيق تجميل بطريقة منفرّة وتزعم أن هذا ما كانت تفعله نساء القرن الماضي، وتحصد عشرات الألوف من الإعجابات؛ هل من يُعجب بها يشجّعها على امتهان نفسها؟ هل يريد تقليدها "ويخاف"، أم لكثرة تعرّضه للإسفاف فلا ينزعج منه، أم لإدمانه مشاهدة أي شيء فيده تتحرك "بلا" وعي للإعجاب. وعن مدرّسة تقوم بحركات غريبة لتقليد الطلاب، وتنال مئات الألوف من المتابعين. وعن أستاذ في الطب النفسي يقدم لحواء وصفات كيف "تضحك" على الرجال، وتحصل منهم على ما تريد؛ وينافس سيداتٍ يقدّمن المحتوى الهابط نفسه مصحوباً بتلميحات جنسية وغمزات. وعن سيدةٍ تقفز على السرير ويتابعها مئات الألوف. وعن أب يعطي ابنته هدية غالية الثمن، ويبالغ بتدليللها والكاميرا ترصد غيرة أختها "وبكاءها"؛ فأي تربيةٍ يريدها هذا الأب، وما يدفع بعضهم للإعجاب به؟ وعن تركيب الصوت والصوة على فيديوهات مشهورة مع العري والابتذال الفج. وعن بنتٍ حصلت على مئات الألوف من الإعجابات على فيديو تقول فيه فقط إنها تشعر بالغيظ عندما تهاتف أحدا للتهنئة بعيد، فيسبقها بالقول كل عام وانت بخير. وعن بنت تظهر بتقويم الأسنان الملوّن، وتطلب من المتابعين ذكر الألوان به، ويعجب بها كثيرون. وعن سيدة تسخر من زوجها "المثقف"، وتقول إن الناس يستغربون كيف تزوجته، وهي الجميلة، ويظهر معها "ليلطف" من سخريتها بكلام غريب؛ فما الذي يدفعه إلى "قبول" ذلك؟ وكيف "يواجه" نفسه قبل مواجهة الناس؟ هل المال "يستحقّ" هذا؟

هل ترصد هيئة أو جهة حكومية أو أهلية في أي بلد عربي ما يتابعه الملايين في العالم العربي عبر "تيك توك"؟

ماذا عن التقدير الجيد للنفس؟ نرحب بالترفيه ونراه ضرورة تتزايد مع تنامي الضغوط ونرفض "اعتياد" السفاهة وترويجها. قال نجيب محفوظ: "لا تغالي من المثالية وإلا متّ من التقزز"؛ ولو عاش عصر "التيك توك" لقال: "لا تتجاهل زحف الابتذال والسخف والبذاءات إلى عقلك وقلبك وإلا مُتّ مختنقا بهم، ولو بعد حين". قال إدوارد سعيد: "التلفزيون سيل من الصور والكلام المتدفق وشيئا فشيئا يصبح بديلا عن العمل الذهني، وتضمر بذلك القدرة على التفكير"، فماذا عن "تغوّل" التيك توك؟

يتساءل بعضهم: هل توجد هيئة أو جهة في أي بلد عربية؛ حكومية أو أهلية "تهتم" برصد ما يتابعه الملايين في العالم العربي عبر "تيك توك"؟، وهل هناك من "يرصد" الآثار السلبية، خصوصا على الأطفال والشباب من الجنسين؟، وهل يضع أحد "الخطط" الواقعية والعملية لتقليلها؟ أم أنّ لا أحد يهتم؟ أو أن من يهتم لا يمتلك اتخاذ القرار؟ نردّ بأن ملايين في العالم العربي، في أثناء أزمة وباء كورونا، لم يكتفوا بما اتخذته الحكومات العربية من إجراءات الحماية؛ فاجتهدت أسرٌ في توفير أفضل حماية "ممكنة" لنفسها؛ وهو ما على الجميع فعله.

نجلاء محفوظ
نجلاء محفوظ
كاتبة مصرية، نائب رئيس تحرير الأهرام، مستشارة اجتماعية، لها كتب عديدة، منها للأطفال