عن الإلهاء الداخلي والخارجي والمسؤولية الفردية
نتفق مع قول إريك فروم: "الحرية هي القدرة على اتباع صوت العقل والمعرفة في مواجهة صوت المشاعر اللاعقلانية"، ونضيف أن دور العقل طرد "أصوات" الإلهاء ومنع الخضوع لإلحاحها ورفض المثل الشعبي الشائع "الزّن على الودان أمر من السحر"، ونرى أن ذلك فقط لمن "يقبل" مواصلة الاستماع "للزنّ".
الإلحاح يعطل العقل، ويجعله "يختار" الاستسلام لما يوقن أنه خطأ ولو بعد حين. الإلهاء يعني "تعمّد" إبعاد الإنسان عما يفيده وشغله عنه؛ وكأنه يدفعه إلى الحفر وزرع الزرع ورعايته بالمياه والأسمدة والوقت والجهد المتواصل، فيما "لن" يحصد ثماره أبداً، وسيضرّه أيضاً؛ فسيحرمه الاستفادة بالوقت والجهد والعمر فيما تسعده ثماره.
يقول مالكوم إكس: "وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض؛ لديهم القدرة على جعل الأبرياء مذنبين وجعل المذنبين أبرياء، وهذه هي القوة لأنها تتحكّم بعقول الجماهير". ولم تصبح وسائل الإعلام وحدها صاحبة هذه القدرة، فأضيفت إليها وسائل التواصل الاجتماعي وصنّاع المحتوى، وكل من يصل إلينا في منازلنا في كل الأوقات، ونفتح عقولنا لهم "ونتجاهل" وضع الفلاتر، فيصبون فيها "شوائبهم" المتعمّدة وغير المقصودة.
السير وراء ما يقوله الأخرون بلا أدلة أكبر خطيئة عقلية
نذكّر بقول تشومسكي في كتابه "أسلحة صامتة لحروب هادئة" "يعتمد الإلهاء على تشتيت اهتمام العامة بالمعارف الضرورية وصرف أذهانهم عن المشكلات الحقيقية الاقتصادية أو الاجتماعية وتوجيهها إلى أشياء تافهة، حتى لا يكون لديهم وقت للتفكير". نرى أن السير وراء ما يقوله الأخرون بلا أدلة أكبر خطيئة عقلية، ونتفق مع أحمد شوقي القائل: دقات قلب المرء قائلة/ له إن الحياة دقائق وثواني.
ونضيف: لا نمتلك أبداً "رفاهية" إهدار ولو ثواني في السير وراء الإلهاء بأنواعه. ومن أكثر أنواع الإلهاء انتشاراً الشائعات "والمغالطات" للاستدراج للدخول في جدال يطول، "وإغراق" العقول بسيولٍ من التفاهات، وأحياناً الأمور المستفزّة واستغلال الحوادث غير المتكرّرة والشاذّة "والنفخ" فيها وكأنها ظاهرة، وتحميل التجار وحدهم مسؤولية ارتفاع الأسعار والمبالغة بنشر فضائح، وأحياناً "تعمّد" الكذب في بعض التفاصيل لمزيد من نسب المشاهدة، واستغفال الناس بترديد الأكاذيب والإصرار عليها حتى تصبح كأنها حقائق، وليشعلوا الاهتمام بما لا يستحق، و"تعمّد" اقتطاع جزء من كلام شخصية معروفة وعزله عن السياق ووضعه بعنوان؛ وكثيراً ما يكون الاقتطاع مستهدَفاً به قيم اجتماعية أو دينية وأحياناً وطنية.
ثمّة نصيحة يونانية قديمة، نحتاجها بشدة في عصرنا، تقول: "ضع حارساً على باب عقلك". ونحذر، فما تعتقده في عقلك يتكون بما "تسمح" بدخوله إليه، فكثيراً ما ترى أذكياء وناجحين وغير باحثين عن لفت الأنظار بالدفاع عن ألوان الإلهاء وأنواعه. نجد هؤلاء يتغافلون عن دورهم في حراسة عقولهم "وينجرفون" وراء الإلهاء المتعمد، سياسياً كان أو إعلامياً لزيادة المشاهدات ولصرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية التي يعاني منها المجتمع، ويهدرون بعض طاقاتهم العقلية في الحديث عنها.
نرى الإلهاء الداخلي في محاولات الهرب من تحقيق الذات والتأجيل "المتعمّد" لتنفيذ الخطط لتحسين الحياة واختيار الاستسلام "للإغراءات" المختلفة
يحصُد الإلهاء، بأنواعه، الثمار الكثيرة عندما يردّده من "نحبهم" أو من نثق بهم؛ "فنندفع" بتلقائية لتصديق ما يقولونه، وربما "تطوعنا" بنشره في الواقع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وكتائب إليكترونية لهم "مجاناً"، وقد يقلّدنا بعض من يثقون بنا ويحترموننا، ولعل هذا من أهم أسباب انتشار الإلهاء.
ننسى أحياناً، ربما من انهماكنا الزائد بتفاصيل الحياة وضغوطها المختلفة التي لا ينجو منها أحد، أن العقل يعمل وينضج ويتسع "فقط"؛ عندما نفكّر في ما يُقال بعيداً عمن قاله أو من "يروّجه". يحدُث الإلهاء الخارجي أحياناً باستدراجنا للتعليق على أمور تعطّلنا من بعض المعارف وزملاء العمل للعرقلة ووسائل الإعلام ووسائل التواصل، ونوقن أن من يمنح لغيره "ريموت كنترول" حياته، لا يحقّ له أن يلوم إلا نفسه.
يأتي الإلهاء الخارجي أيضاً من خارج الوطن بصنع أعداء غير حقيقيين للشعوب، تشغلهم عن أعدائهم الحقيقيين، وهذا يحدُث دوماً في التاريخ القديم والحديث. نرى الإلهاء الداخلي في محاولات الهرب من تحقيق الذات والتأجيل "المتعمّد" لتنفيذ الخطط لتحسين الحياة واختيار الاستسلام "للإغراءات" المختلفة، كقضاء أوقات طويلة أمام وسائل التواصل الاجتماعي والانشغال بأمور لا تستحق، وتضييع الوقت، وهو جزء "غالٍ" جداً من العمر.
من وسائل الإلهاء إشغالنا بتفاصيل لا تفيدنا، مثل اللصوص الذين يفتعلون مشاجرة في وسيلة مواصلات عامة، أو في سوق مزدحم، ليتجمع الناس لفضّ المشاجرة، وآخرون بسبب "الفضول"، ثم ينتهزون الفرصة لسرقة أكبر عدد ممكن من المتجمعين. ونتعرّض لذلك "جميعنا" من وقت إلى آخر، ومن الذكاء "الاعتراف" بذلك؛ فلا أحد منا لم يتعرّض لخداع الإلهاء، ولو لبعض الوقت، والاعتراف "احتراماً" للعقل وصيانة للعمر ومنع تكراره والتنبه له.
من أكثر أنواع الإلهاء انتشاراً الشائعات "والمغالطات" للاستدراج للدخول في جدال يطول، "وإغراق" العقول بسيولٍ من التفاهات
حاول أهل قرية، في قصة شعبية بديعة، نقل فئران إلى مكانٍ "للتخلص" منها؛ فوضعوها في أجولة من القماش، فكانت الفئران تأكلها وتهرُب وتعود إلى القرية سريعاً، إلى أن فكّر أحد أذكياء القرية بفكرة عبقرية، فأمرهم فور وضع الفئران في الأجولة بهزّها كثيراً طوال الوقت حتى "تنشغل" في ما يحدُث لها، ولا تجد فرصة للبحث عن طريقة للنجاة من المصير الصعب الذي ينتظرها.
حكت سيدة تقدّم "محتوى" عن التجميل على "يوتيوب" أن نسبة المشاهدات كانت قليلة، "فلجأت" إلى الرقص بمكنسة يدوية! فتضاعفت نسبة المشاهدة، وانضم إلى قناتها آلاف في وقت قليل. والمُلاحظ أن السيدة تقدم نصائح عادية جداً، ويعرفها كثيرات، ولكنها تجيد "الإلهاء" بترديد كلمات مضحكة وتحكي حكايات غريبة "لجذب" الانتباه ولزيادة الوقت الذي يقضونه في مشاهدتها، وبذلك تضاعف مكاسبها المادّية من "يوتيوب".
عند الدعوات إلى مقاطعة لمنتجات أي بلدٍ مهما كانت الأسباب، يبرز أحياناً احتجاج "عالي" الصوت، يقول: ولماذا لا تقوم الدول بذلك، وتعفينا من تحمل عبء هذا الدور؟ المؤسف أن غالبية هذه المنتجات، إن لم يكن كلها، توجد "بدائل" لها؛ والعبء المشار إليه هنا يتلخص في "الاعتياد" على مذاقٍ معين لسلعة غذائية أو ارتياح نفسي لسلعةٍ ما، أو فقط رفض التغيير طلباً "للأمان" المزعوم أو الخوف فقط من التغيير. نتذكّر ذلك، فبعضهم من كل الأعمار يطلب من الحكومات "حمايته" من كل الأضرار بالإعلام وغيره؛ في وقتٍ يصرخ في والديه عندما يخبرانه بأمر يفيده ويقول: أنا كبرت!
من النضج تحمّل المسؤولية التامة عن كل ما يدخل في عقل الإنسان ووجدانه؛ وعليه "وحده" فلترته أولاً بأول، وطرد الشوائب حتى لا تتراكم "فتسدّ" الفلاتر، وتضعف إرادته في إزاحتها "وتلتصق" به فتصبح جزءاً من عمره، وقد يدافع عنها باستماتة، ويزيح من ينبهه لخطرها عليه. يقول الرائع عبد الرحمن الشرقاوي: "لعن الله كباراً شغلوا الأمة بالزيف وعاشوا في الصغار". ونخشى أن تصيب اللعنة من "اختاروا" إلغاء عقولهم وتخلّوا عن "مسؤوليتهم" في حماية عقولهم.