"لماذا يكرهوننا؟" بنسخة روسية

16 مارس 2022
+ الخط -

لا يسأل فلاديمير بوتين "لماذا يكرهونني" على غرار ما يفعله الساسة الأميركيون منذ سبتمبر/ أيلول 2001. المكتبة الأميركية مليئة بإصدارات حاولت تشريح السؤال. وبعد اقتراح العديد من الأجوبة، يطمئنّ الأميركيون إلى حقيقة أنه بقدر ما أنهم "يكرهوننا" بقدر ما أن أميركا لا تزال أكثر بلد في الكون يحلم المهاجرون في الوصول إليه والإقامة فيه رغم الوحل الذي لطّخ صورة "الحلم الأميركي". أما بوتين فهو يدرك أنه ما إن يعترف بأنه مكروه، فسيبدأ العد العكسي لنهايته. شيء شبيه بما حصل مع الاتحاد السوفييتي الذي يعتبر بوتين أن انهياره كان "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، وهو الفرد الأوسط من عائلة الإمبراطوريات الروسية التي لا تعيش إلا على التوسّع، بعد النسخة القيصرية وقبل البوتينية. ما أن بدأ حكامه ينظرون إلى المرآة ويعترفون، وإن بتلعثم، بضعفهم، حتى انهار المبنى. ليس صحيحاً أن البيريسترويكا والغلاسنوست وحدهما فتحا صنبوراً أفرغ الخزان السوفييتي، إلا أنهما زادا من قوة ضخّ ما كان متبقياً من دم في عروق الإمبراطورية. بوتين درس تاريخ التوسع الروسي بتمعن ولكنه لم يقرأ الفصل الأخير من الكتاب، ذلك الذي يكون مخصصاً للخلاصات في العادة.

يهرب بوتين من السؤال الصائب "لماذا يكرهونني" إلى الجواب الخاطئ: إنهم يكرهوننا بصيغة الجمع، يكرهون كل ما هو روسي لأنهم لا يتحملون رؤية بلدنا له ما يستحق من قوة ونفوذ وسطوة في النظام الدولي. والـ"هم" تكثيف لخطاب الحرب الباردة بمنسوب قومي أكبر وشعبوية مضاعفة عما كان أيام السوفييت ومن دون ثرثرات أيديولوجية عن البروليتاريا وتأميم وسائل الإنتاج والتحليل المادي للتاريخ والديالكتيك. مكانها يحل تناقض ثقافوي قوامه "نحن" و"هم" الليبراليون الغربيون. مَن يترصد أدبيات فلاديمير بوتين وديماغوجييه، من ألكسندر دوغين وسيرغي ناريشكين ونيكولاي باتروشيف وغيرهم، يدرك أن الأولوية هي للتصويب الروسي على الغرب والليبرالية، قبل أميركا. أزمة هؤلاء هي مع قيم الليبرالية والديمقراطية والحداثة والتنوير والحريات والمجتمع المفتوح. إنها أزمة كل فكرة محدودة مع منظومة أفكار أوسع منها. يعتبرون الانفتاح نقيصة. الليبرالية شرّ مطلق. الانفتاح الحميد الوحيد عندهم هو توسيع النفوذ والحدود على حساب كيانات ودول أصغر. يرون في الإعلام المستقل عند "الآخرين" إلهاء للناس بخرافة اسمها حرية. الإعلام الحكومي الروسي أفضل تعبير عن كيف يرى حكام الكرملين العالم: يوم صوّتت 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة إدانةً للغزو الروسي لأوكرانيا قبل أيام، وضع القيمون على موقع "روسيا اليوم" كل عبقريتهم ومهنيتهم في عنوانهم العريض: "5 دول في الجمعية العامة للأمم المتحدة تمتنع عن إدانة العملية العسكرية في أوكرانيا و35 تلتزم الصمت". لا وجود لـ141 دولة دانت الاجتياح طالما أن حكام كوريا الشمالية وسورية وإريتريا وروسيا البيضاء معنا.

السياسة في العقيدة البوتينية حرب مستمرة، حرب بالمعنى الحرفي لا المجازي. السياسة هي تصفية للمعارضين. هي كالاستخبارات والأمن، كذب بلا وقت مستقطع. يروي عميل منشق عن الـ"كي جي بي" ويقيم حالياً في جبال الألب الفرنسية، أن الدرس الأول الذي يتلقاه عنصر الاستخبارات الروسية اليوم والسوفييتية في الأمس، هو عدم الاعتراف بأي جريمة يرتكبها حتى ولو ضُبط بالجرم المشهود. الإنكار المزمن يزرع الشك في النفوس، وهذه استعارة أخرى من العقيدة الغوبلزية. ثروات البلد توزَّع على الأوليغارشية تماماً كما يوزع السلاح على العسكر. حتى الرياضة تمّ تسميمها بقرار مركزي: تعاطي الرياضيين الروس المنشطات المحظورة للفوز بالميداليات هو سياسة رسمية لإلحاق هزيمة أخرى بالغرب. روسيا في سنواتها العشرين الماضية من أقل بلدان العالم استقبالاً للاجئين، والأكيد أنها أكثر بلد شنّ حروباً ودعم طغاة وقتل شعوباً.

تأخّر طرح سؤال "لماذا يكرهون" فلاديمير بوتين عشرين عاماً، وكلما تأجل سماع الجواب، كبرت أضرار صارت تُقاس بحجم قنبلة نووية.