لماذا لا يتضامن العرب مع ثورة الإيرانيات؟
منذ أسابيع، والنساء الإيرانيات يحتججن بشجاعة نادرة متحدّيات قمع نظام الملالي في طهران على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني على يد "شرطة الأخلاق" وقد لاقت الثورة النسائية المضادّة تعاطفاً واسعاً في العالم من لوس أنجليس إلى طوكيو ومن استوكهولم إلى سيدني، وباستثناء تونس ولبنان، حيث نُظمت فعاليات محتشمة، لم تشهد أيّ دولة عربية أخرى خروج مسيرات للتعاطف مع الإيرانيات اللواتي يتحدّين الموت يوميا للمطالبة بحريتهن وحرية شعبهن للانعتاق من سلطة نظام ثيوقراطي يكتم أنفاس القوى المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية في إيران منذ زهاء 44 سنة.
لا يتعلق الأمر هنا برصد مواقف سياسيةٍ عربية رسمية تدافع علانية عن حق الشعب الإيراني في الدفاع عن نفسه وتقرير مصيره بكلّ السبل والوسائل السلمية المتاحة له، فأغلب الأنظمة العربية مرتابة مما يجري في إيران، وتخاف أن تنتقل عدوى الغضب الشعبي الإيراني إلى بلدانها التي تفتقد فيها شعوبها الحرية والكرامة والمساواة، وهي المطالب نفسها التي يرفعها المتظاهرون في إيران. لكن، بعيداً عن الأنظمة وحكوماتها ومخاوفها وهواجسها وحساباتها السياسية الضيقة، ما الذي يجعل العرب، خصوصاً النساء والمثقفين في المنطقة العربية، بما في ذلك الدول التي توجد فيها حركاتٌ نسائيةٌ تقدّمية، لا يتعاطفون مع الإيرانيات والإيرانيين في ثورتهم التي ترفع شعار "الحرية، الحياة، المرأة"؟
نجحت المرأة الإيرانية في تحويل رفضها الحجاب القسري إلى عنوانٍ لرفض الاستبداد والظلم والاضطهاد
ثمّة عدّة أسباب تجعل المواطنات والمواطنين في الدول العربية لا يتعاطفون مع ثورة الإيرانيين، وفي حالات كثيرة لا يهتمون بما يجري في إيران، وحتى الأنظمة العربية التي لا تخفي عداءها السياسي للنظام الإيراني، تراقب من بعيد ما يجري في إيران بغير قليلٍ من التشفّي والارتياح، وفي الوقت نفسه، تضع يدَها على قلبها خوفا من انتقال عدوى ثورة الإيرانيات إلى بلدانها. وفي مقدّمة هذه الأسباب بعد المسافة الجغرافية، والاختلاف في الثقافات والتقاليد، وخصوصا في المذهب العقائدي، ما يجعل عربا وغير عرب كثيرين من أعراق وإثنيات أخرى من مواطني المنطقة العربية لا يهتمون بما يجري في إيران، على اعتبار أنه لا يعنيهم، أو لا يؤثر في حياتهم ومعيشهم اليومي، بالإضافة إلى تأثير الآلة الدعائية الإعلامية لأنظمة عربية كثيرة عملت طوال العقود الأربع الماضية، لأسباب سياسية أو عقائدية أو تاريخية، على شيطنة النظام الإيراني، ومنها من قطع علاقاته السياسية معه، أو قلصها إلى أدنى المستويات، وهو ما انعكس على تمثّل إيران في ذهن شعوبها التي لم تعط لها الفرصة للاطلاع على إيران وثقافتها وحضارتها العريقة والاهتمام بحركية ودينامية مجتمعها.
يضاف إلى ذلك البعدان، الديني والأيديولوجي، اللذان ساهما في التباعد بين إيران وكثير من شعوب المنطقة العربية، وحتى في الدول العربية التي توجد فيها أغلبية أو أقلية شيعية. وقد أحدث الاختلاف في المذاهب شرخاً كبيراً بين أبناء الدين الواحد، وساهمت التيارات المتطرّفة من كل مذهب في تشويه المذاهب الأخرى التي تختلف معها، وأعادت إحياء العداوات التاريخية القديمة بين الشيعة والسنة. أما لدى التيارات اليسارية والعلمانية في المنطقة العربية فقد أسقطت، في أغلبها، خلافاتها الأيديولوجية، وفي حالاتٍ متطرّفة عداءها للنظام الثيوقراطي في إيران، على كلّ ما يمتّ لإيران بصلة، إما عن جهل أو تطرّف أو محاباة لأنظمتها السلطوية المتخاصمة مع النظام الإيراني.
من حقّ المرأة الإيرانية، والمرأة في كلّ مكان، أن يكون لها حقّ تقرير مصيرها بنفسها، وأن تعبّر عن رأيها بحرية
البعد الآخر في هذه القضية ذو طبيعة إشكالية، سواء عند مدّعي التديّن أو دعاة الحرية، فبالنسبة للفريق الأول، رغم اختلاف بعضهم المذهبي مع منطق نظام الملالي، إلّا أنّهم ينتمون إلى المرجعية المتخلفة نفسها التي تنظر إلى جسد المرأة باعتباره عورة، وبالتالي لا ينتظر من هؤلاء أن ينتصروا للنساء الإيرانيات، بينما النساء في دولهم، بل وفي بيوتهم، مضطهدات. أما دعاة الحرية في منطقتنا العربية، خصوصاً الصادقين منهم، فيجدون أنفسهم أمام مفارقتين عظيمتين، مفارقة اصطفافهم إلى جانب منظوماتٍ غربيةٍ منافقةٍ يتحرّك ساستها ومثقفوها وإعلامها عندما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران، وفي مثيلاتها من الدول التي يصنفها البراديغم الغربي معادية لقيمه وسياساته ومصالحه، وتصمت أو تتواطأ مع أنظمة "صديقة لها" مستبدّة ومضطهدة لشعوبها، وفي حالات فجّة مثل إسرائيل تدعم اضطهادها للفلسطينيين، وتحميه من كلّ مساءلة أو محاسبة! ومفارقة دفاعهم عن حرية المرأة المسلمة في الدول الغربية لوضع الحجاب الذي يمثل خلعه اليوم رمزاً لثورة الإيرانيات، خصوصاً إذا كانت المطالِبات بذلك يسعيْن إلى ارتدائه عن قناعة واختيار، لا وسيلة مقَنَّعة للاستجابة إلى تسلط موروث ثقافي واجتماعي، أو الخضوع إلى وصايةٍ لا تعلن عن نفسها.
استمرّت الثورة الإيرانية الحالية أم تمكّنت آلة القمع المسلطة عليها من إجهاضها كما فعلت مع سابقاتها، فقد نجحت المرأة الإيرانية في تحويل رفضها الحجاب القسري إلى عنوانٍ لرفض الاستبداد والظلم والاضطهاد والخضوع باسم الدين، وجعلت من الكشف عن خصلات شعرها رمزاً للحرية والحق في الاختيار، وسيسّجل لها التاريخ شجاعتها في التصدّي للقمع والاضطهاد المغلف بتعاليم دينية بالية، وهي تتصدّر مسيرات الدفاع عن حقّ الإيرانيين في الحرية والمساواة والكرامة.
وبعيداً عن كلّ الصراعات المذهبية المتجذّرة، والخلافات الأيديولوجية المتغيرة، والحسابات السياسية الضيقة والمصالح الاقتصادية الآنية، من حق المرأة الإيرانية، والمرأة في كلّ مكان، أن يكون لها حق تقرير مصيرها بنفسها، وأن تعبر عن رأيها بحرية، وأن تدافع عن حقها في الاختيار بعيداً عن كلّ السلط السياسية والوصايات الدينية وكلّ أنواع الضبط المجتمعية والثقافية والفكرية، فما بالك إذا كانت تعيش تحت نير نظام رجعي ثيوقراطي، يقوم على نظرية "ولاية الفقيه المطلقة" التي تعتبر "الإمام المرشد" حجّة الله في الأرض وخليفته على الناس فيها!