لماذا كيسنجر في الصين؟
اجتذبت زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الصين الأسبوع الماضي اهتماما كبيرا، كما أثارت تساؤلاتٍ عن هدفها، ودلالات التوقيت، والاجتماعات عالية المستوى التي عقدها في بكين، بما في ذلك مع الرئيس شي جين بينغ. لا شك في أن الصينيين أرادوا من حفاوة الاستقبال التي لاقوا بها ضيفهم واللقاءات الرفيعة التي خصّوه بها، في مقابل التعامل البارد مع مسؤولي الإدارة الحالية، بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزيرة الخزانة جانيت يلين، توجيه رسالة مفادها بأنهم مستعدون للتعامل بالمثل مع من يعاملهم بودّ واحترام. مع ذلك، يجد المرء صعوبة في قبول فكرة أن الوزير السابق، البالغ مائة عام، ويجد مشقّة في السفر، ذهب إلى الصين كجزء من دبلوماسية عامة يقوم بها رموز السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا الأميركيون تجاه الصين، حيث سبق لكلّ من إيلون ماسك، صاحب "تويتر" و"تسلا"، وبيل غيتس صاحب "مايكروسوفت"، وتيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة "أبل" أن زاروا الصين هذا العام، والتقوا مسؤولين كبار فيها. بالمثل، يجد المرء صعوبة في قبول فكرة أن كيسنجر قام بهذه الزيارة، بحسب وسائل إعلام أميركية، بهدف إنقاذ إرثه المهدّد، باعتباره مهندس استراتيجية التقارب مع الصين في مطلع السبعينيات، والتي لعبت دوراً مهما في عزل الاتحاد السوفييتي، قبل الإجهاز عليه أواخر الثمانينيات. الأرجح، أنّ التوتّر المتصاعد بين القوتين الكبريين، خصوصاً في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان، وتزامنه مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها الصين، يثير شعوراً متنامياً بالقلق في واشنطن من أن تُقدم الصين على مغامرة عسكرية ضد تايوان تورّط الولايات المتحدة في حربٍ لا تريدها. ويبدو أنّ إدارة بايدن أرادت الاستفادة من "المكانة" التي يحظى بها كيسنجر في الصين، لإيصال رسائل مفادها وقف التصعيد، إذ يصعب تصوّر أنّ زيارة من هذا النوع، لشخصيةٍ بهذا الوزن، يمكن أن تتم من دون تنسيق مع الحكومة الأميركية.
لكن، ما هي المؤشّرات التي برزت أخيراً، وأقلقت واشنطن إلى درجة تدفعها إلى الاستعانة برجل بلغ من العمر عتياً لتزجّه في رحلة طيران طويلة، وترسل معه فريقاً طبياً كاملاً للاهتمام به، من أجل إيصال رسالة بالتهدئة إلى الصين؟ يبدو أنّ المؤشّرات الاقتصادية الصينية بدأت تثير قلقاً في واشنطن في ظل توقّعات تقول باحتمال حصول أزمة كبيرة بعد أن بلغ حجم الديون الصينية 300% من الناتج الإجمالي القومي البالغ 17 تريليون دولار، أي أنّنا نتحدّث هنا عن حجم ديون يصل إلى 50 تريليون دولار، وهو رقم مخيفٌ بكلّ المقاييس، بالتزامن مع معدّلات نمو اقتصادي تعد الأدنى منذ بداية الانفتاح الرأسمالي الصيني أواخر السبعينيات، في حين توضح الإحصاءات المتوفرة أنّ مستوى البطالة بين الفئات العمرية 16-25 بلغ نحو 22%. هؤلاء هم الذين أجبروا الحكومة العام الماضي على إلغاء سياسة "صفر كوفيد" وعلى فتح الاقتصاد، بعد احتجاجاتٍ كانت الأوسع منذ أحداث 1989 وأطلقوا فيها شعارات تطالب برحيل الرئيس شي جين بينغ. ومن المؤشّرات التي تثير قلق واشنطن أيضا أن نسبة الهجرة الصينية غير الشرعية إلى الولايات المتحدة بلغت هذا العام مستوياتٍ قياسية. وتفيد أرقام دائرة الهجرة وحماية الحدود الأميركية بأن نسبة الصينيين الذين يقفون على الحدود الجنوبية مع المكسيك بغرض دخول الولايات المتحدة زادت بنسبة ألف بالمائة في النصف الأول من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وتحذّر مراكز أبحاث غربية من أنّ النموذج الصيني الذي يقوم على التعدّدية الاقتصادية في ظل نظام سياسي شمولي ربما بلغ مداه، وأنّ الحزب الشيوعي الصيني، في ظل المؤشّرات الاقتصادية الراهنة، أصبح أمام خيارين: الإصلاح السياسي أو البحث عن مواجهة خارجية. ولمّا كانت تجربة غورباتشوف والبريسترويكا السوفييتية ماثلة في الأذهان، وكذلك أحداث تيان آن مين (1989)، يرجّح أن تميل الكفّة للخيار الأخير. وقد لاحظ كثيرون أنّ الحكومة الصينية تستغلّ التوتر مع الولايات المتحدة لبعث المشاعر الوطنية، وإحياء الروح القومية، والبدء "بتصنيع" عدوّ خارجي، وهي الخطوة الأولى التي تعتمدها الأنظمة المأزومة لحشد الناس حول قيادتهم، وصرف انتباههم عن مشكلاتهم الداخلية، وهذا ما يخيف واشنطن الآن.