"لعبة" ربعي المدهون الجديدة

29 ابريل 2016
+ الخط -
أهم ما تُنجزه الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) أنها تحقّق للأعمال الفائزة بها مقروئيةً واسعةً بين جمهور عربي عريض، وحدث أنها صنعت التفاتاً إلى رواياتٍ لم تتوفّر معرفةٌ بها خارج أوساطٍ ضيقة، غير أن رواية الفلسطيني، ربعي المدهون، "مصائر .. كونشيرتو الهولوكست والنكبة"، والتي نالت الجائزة في دورتها التاسعة، الثلاثاء الماضي، حازت، فور صدورها قبل صيف العام الماضي، انتباهاً ليس قليلاً، ليس فقط في الصحافة الثقافية العربية وأوساطها، وإنما أيضاً من قرّاء ليسوا قليلين (ثلاث طبعات في العام نفسه)، ما لا يعود فقط إلى نشاط إعلامي وحفلات توقيعٍ في غير مدينة عربية، وإنما لعنوان الرواية نفسها، وبعض الجدل بشأنها، والأهم لما اشتملت عليه، سرداً ولغةً وأجواءً وحكياً. والمقصد من التنويه إلى هذا الأمر، هنا، هو الإشارة إلى أن رواية ربعي المدهون "مصائر .." صعبة بعض الشيء، مركّبة، وعلى شيء من التعقيد، وإذا كان هناك من كتب عنها، بغرض تحطيم أهميتها، وتبخيسها، وبلغة (عسكريةٍ!) كاريكاتورية أحياناً، وبتشنج مستهجن وتربصٍ عجيب، فإن الاستقبال الطيب الذي نالته من نقاد محترمين، ومن أهل الكتابة في الرواية، كان أمضى أثراً. والمعنى، هنا، أن في الوسع أن يقال إن نجاح هذه الرواية، بين جمهرة قراء متنوعي الأمزجة والميول، وبين أهل اختصاص واحتكاكٍ بفن الرواية وصناعتها، يدلّ على أن المضي في مغامرةٍ تجريبيةٍ في بناء عمل روائي، لا يصير تلقيه بيسر وسهولة، لا تُحدث بالضرورة ازوراراً عن قراءته، ولا يعني ترفعاً عن أي جمهور، وإنما وحده إتقان ما تجوز تسميتها "لعبة السرد والحكي" في صناعة مبنى الرواية العام هو ما يمكن أن يحقّق تلك المعادلة، المفتعلة ربما، بين ذيوع مقروئية رواية واستقبال النقاد وأهل الأدب تلك "اللعبة" باستحسان وإعجاب، أو بنقد وتحليل خاليين من الغرض والهوى.
طالع صاحب هذه الكلمات رواية "مصائر ..." قبل شهور، وفي باله أنها ستكون مغامِرة، وغير مريحة، ويلزمها تأن خاص في القراءة، ليس بسبب اسمها المحيّر، وإنما أيضاً لأن "لعبة الحكي والسرد" التي نسجها الصديق ربعي في روايته الأولى "السيدة من تل أبيب" (هل نسمي عمله الأسبق، سيرته اللافتة "طعم الفراق" رواية"؟) كانت جديدة ومربكة، وحيوية وجميلة. وهنا، يحسن التأكيد، للمرة المليون على الأقل، أن قيمة الفن الأهم في كيفيات جمالياته. ولذلك، إذا كانت الرواية التي استحقت جائزة بوكر العربية 2016 فلسطينية، حضر فيها الفقد والحنين والنكبة والشتات، وما إلى ذلك من مفردات المدونة الإبداعية الفلسطينية، في الشعر والرواية والقصة، فإن المناورة في توزيع فصول هذه الرواية، وتناوب حضور الشخصيات، رئيسية وثانوية، وتوزع الحكايات فيها، هي المنجز الأصفى لهذا العمل. وهذه المناورة، معطوفة على التداخل بين المتخيل والواقعي المحسوس، وبين الذاتي الشخصي والعام الفلسطيني، وبين التذكّر والراهن، وعلى مشغولات نصية أخرى، هي التي أغوت لجنة تحكيم جائزة "بوكر"، المؤلفة من صحفي مثقف وناقدة وأكاديمي وشاعر ومستعرب، وجعلتهم يتوّجونها على 159 رواية عربية، مع تثمينهم جميعاً نصوصاً أخرى، وبعضها من خارج القائمة القصيرة، اشتملت، كما قالوا، على تميّز طيب.
.. هل صحيح أن "حيفا جنّنت ثلاثة أرباع الفلسطينيين"؟ هل زيارة فلسطيني متحف "ياد فاشيم" للهولوكست المقام على أرض فلسطينية محتلة، وقرب قرية دير ياسين، حيث ارتكبت المذبحة الشهيرة، هل تضطره إلى تذكّر جرائم إسرائيل في غزة وغيرها؟ ولماذا هذه الزيارة أصلاً؟ إلى متى يبقى الفلسطينيون مشدودين إلى سرد حكايات الحنين والأوجاع؟ كيف تكون الكتابة عن فلسطينيي الأرض المحتلة في العام 1948، الباقين هناك، بحسب تعبير ربعي، وإميل حبيبي قبله؟ هذه بعض أسئلة تستنفرها رواية "مصائر.. كونشيرتو الهولوكست والنكبة" التي تتوسل حركات موسيقى الكونشيرتو في بناء أربع حكايات مركزية فيها، وبقدر ما تستولد هذه الأسئلة أخرى غيرها، وأجوبة منفتحة، ومشاكسة، يتحقّق نجاح مضاف لرواية فلسطينية مهمة، أنجزت لنفسها مطرحاً متقدّما في الرواية العربية الحديثة، فازت بجائزة بوكر، ولكاتبها التهنئة المؤكدة، أم لم تفز.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.