لا ضير في قليل من الإنصاف
الصور التي تنتشر على صفحات العالم الأزرق عن بلادنا العربية والإسلامية، من الثلاثينيات حتى نهاية ستينيات القرن الماضي، تثير حنين من على قيد الحياة وعاصر إحدى تلك المراحل، أو تثير حسرة من هم مثلنا، يؤمنون أن هذه البلاد كانت تستحقّ مصيرا أفضل مما هي عليه الآن، فالمدن، كما توضح الصور وأفلام "الزمن الجميل"، كانت نظيفة تغطّيها مساحاتٌ خضراء كبيرة، هادئة، لا ازدحام فيها ولا ضجيج، أبنيتها ذات نظام معماري جميل، وهندسة شوارعها وجسورها بمواصفات قياسية، لا عشوائيات فيها، جامعاتها شبيهةٌ بجامعات الغرب. أما المجتمعات فكانت، كما تظهر الصور والأفلام وحفلات كبار الفنانين، منفتحة، تتمتّع فيها النساء بحرّية الحياة واللباس والتعليم والسهر والفُسح. مجتمعات لا مشكلة لديها مع الاختلاط بين الجنسين. ولا يعتبر فيه جسد المرأة وشعرها وصوتها أمورا تستدعي النقاش. حتى سياسيا واقتصاديا كانت بلادنا تتمتع بشيء من الديمقراطية لم يعد موجودا، وباستقرار اقتصادي جعل من خطط التنمية ومشاريعها قابلة للتنفيذ.
كانت الحياة كما وصلت أخبارها إلينا مثاليةً تماما، نتبادل صورها ونشاهد ما تبقى من فنونها ونتحسّر على ما وصلت إليه مجتمعاتنا، ونتمنّى لو أن الزمن توقف عند تلك المرحلة، وبقيت بلادنا على ما هي عليه، ولم نر كل هذا التخلف والتشدّد الذي صار سمة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، أو التشوّه الجمالي والتصحّر الذي أصاب بلادنا وعمرانها، ولم نعاصر هذا النمو العشوائي في عدد السكان وفي أماكن سكهنم، ولم نر حال جامعاتنا ومدارسنا ومشافينا ومحاكمنا، ولم نر انحسار دور المرأة وحضورها في المجتمع ذاتا مستقلة وسيدة نفسها. نتمنّى لو أن شيئا من الزمن السابق لم يتغير، وبقي الحال كما كان عليه، وهو ما يجعل كثيرين يحلمون بعودة المَلَكيات إلى حكم بلادنا، باعتبار أن الزمن الجميل ذاك تأسّس في فترة الملكيات بكل أنواعها.
وليس مستغربا أن يتم تحميل مسؤولية هذا التغير إلى ما يسمّيه بعضهم "الصحوة الإسلامية"، إذ إن التغيرات في مجتمعاتنا بدأت فعلا مع ثورة الخميني الإسلامية في إيران، ثم طفرة الدعاة الإسلاميين الذين تم تجنيدهم وتمويلهم وتمويل منابرهم التي كانت تتكاثر كالفطر منذ سبعينيات القرن الماضي، وبدأت معهم مجتمعاتنا تأخذ شكلا مغايرا لما كانت عليه، حيث كان هدف الدعاة هو الطبقة الوسطى (الرافعة لأية عملية تغيير)، وشريحة الفنانين (الأكثر تاثيرا على الطبقات الشعبية)، وهو ما جعل من تحميل "الإسلام" مسؤولية التغير الحاصل أمرا سهلا.
لكن مهلا، من قال إن ما وصل إلينا وما نعتبره زمنا جميلا هو ما كان سائدا. هل سأل أحدُنا عما كانت عليه حال الأرياف العربية تلك الفترة (والمجتمعات العربية أساسا زراعية)؟ هل سأل أحدٌ عن الفقر وامتهان الكرامة اللذين كان فيهما فلاحو بلادنا؟ هل يعرف أحدنا حال المرأة لدى تلك الشرائح زمن الملكيات التي نحنّ إليها؟ هل سأل أحدُنا عن الأمية والجهل والتخلف الذي كان سائدا خارج المدن التي تصل إلينا صورها؟ حتى أفلام الزمن الجميل التي نعشقها، لم تستطع أن تعطي صورة حقيقية عن حال تلك الفترة من بلادنا المحكومة بملكيات محميةٍ من دول كبيرة محتلة، كانت تريد تبييض صورتها عبر تجميل المدن الكبيرة ومجتمعاتها، وإظهارها مجتمعات حضرية وحضارية. أما الأقاليم والأرياف فكانت لسوق "العبيد والأجراء" لخدمة الطبقات الغنية، الإقطاعية والبرجوازية. أما بشأن التشدّد الديني، فالحال إن المجتمعات الريفية تقوم بنية العمل فيها على الاختلاط، وهو ما يجعل من الشعائر الدينية أكثر تسامحا. أما ما حدث بعد "الصحوة" إياها فلا يمكن تحميله فقط لها، إذ إن ما فعلته الأنظمة العسكرية والأمنية التي حكمت بعد الملكيات في شعوبها لم يبق أي خيار للشعوب غير التمسّك بالدين المتشدّد هوية وحيدة، في وجه القمع والفساد والفقر والتجهيل والتهميش، وهو أساسا ما أرادته الأنظمة: إبقاء الشعوب مغيّبة بالدين، في تحالفٍ مذهلٍ بين المنظومتين، السياسية الأمنية والدينية.
القصد أن أغلبنا يتمنّى أن تعود صورة الزمن الجميل إلى مجتمعاتنا، على أن تكون العدالة الاجتماعية والمساواة وإلغاء الفروق الطبقية في الخلفية. وعندما نريد تحميل الإسلام مسؤولية ما وصلنا إليه علينا قبلا أن ندين الأنظمة التي غيّبت الشعوب وجهلتها، ولم تترك أمامها سوى التدين منجىً وحيدا. أما الحنين إلى الملكية، فيمكننا أن ننظر إلى حال مجتمعات ملكيات العرب اليوم ونتّعظ.