مذكّرات غولدا مائير والعقل التوراتي

18 أكتوبر 2024
+ الخط -

قد يكون من المفيد، في هذا الوقت، استعادة مذكّرات غولدا مائير، سواء في الكتاب الذي صدر في نهاية السبعينيّات عن الإدارة السياسية في سورية، وأعيد نشره عام 2023 ضمن سلسلة "لكي نفهم" (سلسلة تهدف إلى تقديم فهم للشخصيات السياسية التي كان دورها كبيراً في تأسيس إسرائيل، مثل بن غوريون وديفيد أليعازر) عن دار الحكمة، أو عبر الفيلم الذي أنتجته بريطانيا في عام 2023 بعنوان "غولدا"، من إخراج الاسرائيلي جاي ناتيف، بسيناريو لنيكولاس مارتن، وبطولة الانكليزية هيلين ميرين، وعرضته قناة بي بي سي.

مذكّرات غولدا تتحدّث عن جوانبَ مختلفةٍ من حياة رئيسة الوزراء الإسرائيلية الشهيرة وعن دورها في تأسيس إسرائيل، التي كانت تراها تحقيقاً للوعد التلمودي بعودة اليهود إلى "أرضهم التاريخية"، ما يشكّل ضرورة ملحَّةً "لضمان بقاء اليهود وحمايتهم من الاضطهاد المستمرّ"، وهي السردية التي ترافق اليهود منذ ما قبل الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية، إذ اعتمدت الصهيونية سرديات متعدّدة عن اضطهاد تحكي أدبيات الحركة عن تعرّض اليهود له عبر التاريخ. ما يعني أنّ فكرة أرض الميعاد لم تنشأ ردَّةَ فعلٍ على المحرقة النازية ضدّ اليهود (شملت المحرقة المختلفين بمن فيهم المثليون والملونون وأصحاب الإعاقات الجسدية، وإن استثمرتها الحركة الصهيونية لتسريع تحقيق وعد أرض الميعاد)، بل هي فكرة أقدم بكثير من فترة الهولوكست، التي يقال إنّ للحركة الصهيونية يد فيها عبر إرشاد النازيّين إلى أماكن وجود اليهود، وقدّمتهم الحركة قرباناً لتحقيق الوعد. حتّى أنّ اتفاقاً عقد بين الحركة والنازية عرف باسم "اتفاقية هافارا" (بالعبرية تعني الترحيل)، عام 1933، مكَّنت يهوداً عديدين من الهجرة إلى فلسطين في مقابل إيداع مبالغَ ماليةٍ في البنوك الألمانية.

والعودة إلى مذكّرات غولدا مائير مفيدة هذه الأيام لفهم هذه العجرفة، والذهنية التي تغطّي عمليات جيش الاحتلال وتصريحات بنيامين نتنياهو المتواصلة عنها. تقول غولدا في المذكّرات جملةً بالغةَ الأهمّية: "يقولون عن اليهود إنّهم شعب الله المختار، ولكنّ الحقيقة أنّ اليهود هم الشعب الذي اختار الله ما جعلهم الشعب الفريد من نوعه". وبغضّ النظر عن الإيحاء العلماني في هذه الجملة، إلّا أنّها توضّح الآلية التي يعمل بها العقل التوراتي، الذي يرى نفسه في مرتبة عليا، ويرى التلموديةَ ثقافةً وهُويَّةً يسعى بالطرائق كلّها للحفاظ عليها، وتحقيق وعد الله لها بأرض الميعاد، التي لم تُنجَز كاملةً حتّى الآن. فأرض الميعاد اليهودية، حسب خريطة "إسرائيل الكبرى"، تضمّ، إضافة إلى فلسطين كلّها، قسماً كبيراً من سورية ولبنان والأردن ومصر والسعودية والعراق، وبعض المدن الكويتية. أليس هذا ما يسمّيه نتنياهو اليوم بالشرق الأوسط الجديد الذي سوف تكون لإسرائيل فيه حصّة ونفوذ كبيران؟ ... هذه الخريطة تذكرها غولدا مائير في مذكّراتها بالاستناد إلى الأيديولوجية التوراتية، التي ترى في القومية اليهودية الطريقة الأمثل لتحقيق الوعد. كما تركّز في ما اشتغلت عليه الحركة الصهيونية من تأمين دعم دولي وتحالفات سياسية كفلت لها قوّةً عسكريةً غير مسبوقةٍ في الشرق، وجعلت جرائمها مغطاةً دولياً، حتّى اللحظة.

الأكثر أهمّيةً في العقل الصهيوني تلفيق سردية التاريخ لصالح المشروع التلمودي الصهيوني، ذلك أنّ الحركة اعتمدت على سردية أنّ اليهود كانوا موجودين منذ زمن طويل في هذه المنطقة المسمَّاة فلسطين، وعودتهم إليها كانت في سياق تاريخي طبيعي. أما استحقاقهم لها فضمنته "حرب الاستقلال"، التي خاضها اليهود ضدّ الإنكليز". وهذه السردية هي أكثر التلفيقات الصهيونية استفزازاً، ذلك أنّ من ناهض الاحتلال البريطاني هم الفلسطينيون. فـ"الثورة الكبرى" و"الجهاد المقدس" واللجنة العربية العُليا، والمنظّمات السرّية، مثل الكتائب العربية والنجادة، وقيادات العشائر الفلسطينية، هذه كلّها ناضلت ضدّ الانتداب البريطاني، وضدّ المستوطنات اليهودية التي بدأت بالتشكّل بدعم من البريطانيين. عملت الحركة الصهيونية بدأب شديد على تكريس هذه السردية في الوعي العام الغربي، لتبدو كما لو أنّها الحقيقة الوحيدة. "فوق كلّ شيء هذا البلد لنا، لا داعي لأن يستيقظ أحد في الصباح ويقلق حول ما يعتقده جيرانه به، أن يكون المرء يهودياً هنا ليس مشكلة. هذا البلد لنا لأنّنا ناضلنا لنستحقّه". تقول غولدا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.