"كوميديا" السيسي التونسية

25 يناير 2016
+ الخط -
تشهد النكتة في مصر تراجعاً ملحوظاً. تؤكد ذلك متابعاتٌ صحافية جادة، ومطالعاتٌ لأهل اختصاصٍ في الاجتماع السياسي. يتوازى هذا الحال مع فداحة الرداءة في المسرح الكوميدي الراهن في مصر، وانحداره غالباً إلى ابتذال بائس، مع نُقصان مقادير الإضحاك والبهجة في التنكيت الرديء على خشبات هذا المسرح الذي عرف، في مراحل سابقة، ازدهاراً ومستوى لافتاً في الأداء، فكان من مقاصد السياح العرب.
في هذه الأثناء، استجدّت ظاهرتان، تتوفران على بعض أسباب الضحك، (من دون الكوميديا لوناً مسرحياً). أولاهما ما يتوسلها ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي، ناقمون وساخطون، من صيغٍ احتجاجية هازئة، تتوفر على نكات (وقفشاتٍ) مضحكةٍ عن الطبقة الحاكمة وممارساتها وتصريحاتها واختراعاتها (كفتة عبد العاطي مثلاً). وثانيهما أداء أهل الإعلام التلفزيوني الذين صاروا نجوماً، يكاد جيل ناشئ لا يعرف نجوماً غيرهم. وإذا كان هؤلاء، من طراز (النائب) توفيق عكاشة وأحمد موسى وإبراهيم عيسى وغيرهم، يوفرون مادةً للتنكيت والتسلية (والمسخرة)، فإن الزعم يجوز، وإنْ بتحوّط (أكاديمي؟) أن هؤلاء باتوا، الآن، بما يثرثرون في أي شأن وفي أي وقت، المصدر الأوضح في مصر لتظهير النكتة، السياسية والاجتماعية، أي النكتة التي تستهدفهم، وتطاول من يمثّلون في السلطة والأجهزة. ومع التسليم بموهبة الطبيب باسم يوسف الخاصة، فإنه في الوسع حسبان أدائه، في برامجه التلفزيونية الضاحكة، في سنة رئاسة محمد مرسي، وفي بعض ما تلاها، تنويعاً على ما يتم الحديث عنه بشأن أولئك.
في هذه الغضون، ثمّة شخص في مصر، يطل أحياناً، بما يُضحك. ويُضاعف الإضحاك في إطلالاته أنه يقول فيها ما يقول بكل جدّية، وأحياناً بتقطيبةٍ في سحنته، تشيعُ شعوراً بفائضٍ من القناعة بما يقول. إنه عبد الفتاح السيسي، ومن جديد حالاته هاته، نُصحه، أول من أمس، التونسيين بأن يحافظوا على بلدهم. ولأنه يحوز موقع رئيس مصر، ولئلا ينجم عن نصيحته هذه وقعٌ غير مستحسن، من قبيل أن يسأل أحدٌ ما، في مطرحٍ ما، عن مدعاة دسّ هذا الرئيس أنفه في شأن القطر التونسي الشقيق، استدرك الرجل، وقال إنه لا يتدخل في الشأن الداخلي لأشقائه هناك. ثم استطرد إن الحق، سبحانه وتعالى، سيُؤجِره يوم القيامة، لأنه أوصى بالخير والأمن والسلام والتعمير والتنمية والاستقرار، لا بالترويع والتخريب والتخويف والإيذاء والقتل والشر.
ولأن الكوميديا تقوم، باعتبارها نوعاً فنياً في المسرح، على المفارقة، (كما النكتة عموماً)، فإن السيسي، في الذي توجّه به للشعب التونسي الذي تخوض قطاعاتٌ شبابية منه احتجاجاتٍ على السلطة، بسبب البطالة والغلاء والتهميش ونقصان التنمية، كان يصعد إلى ذروةٍ حاذقةٍ في الإضحاك الذي أحدثه لدى ملايين النظارة الذين شاهدوه يقول ما يقول، بكيفيّةٍ بدت الحكمة في أعطافه غزيرةً. وليست هذه الذروة في أن أحوال مصر تبلغ سوءاً باهظاً في القضايا التي يتظاهر الشبان التونسيون من أجل اجتراح حلولٍ لها في بلدهم، بل أيضاً في أنّ الفكاهة لدى صاحبنا، وهو يتحدّث عن أجرٍ من الله سيحرزه في يوم القيامة، تفوق ما يسّرته قفشات فؤاد المهندس في "السكرتير الفني". أما كلامه الكبير عن التنمية والتعمير والسلام والأمن، ونبذه التخريب والقتل والتخويف، فأرطال الضحك هنا عصيّة على العد، من فرط الوداعة التي أرادنا الرئيس المصري أن نراه عليها، إذ علينا أن نخلع الأم تيريزا والمهاتما غاندي من مطرحهما في مداركنا، وننصّب فيه بطل مقتلتي ميداني رابعة العدوية والنهضة وغيرهما.
هل نسعد بمحاولات السيسي لإنعاش فن الكوميديا في مصر، في طرفته التونسية الجديدة، أم نحزن من ضحكٍ كالبكاء على مصر، في راهنها الذي تمكث فيه سلطةٌ مرتعشة، تتوسّل، عشية ذكرى "25 يناير" المصفحات في الشوارع والميادين، وتنشط في مداهمات الاعتقال والاحتجاز كيفما اتفق، وبهمةٍ ودأبٍ ظاهريْن، يجعلاننا نسأل: ما الذي يجري في مصر بالضبط، كوميديا سوداء أم تراجيديا كئيبة؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.