كل هذا الإحباط في تونس

18 سبتمبر 2021
+ الخط -

الإحباط لغة، شعور بالحزن، واليأس، والعجز نتيجة الفشل في تحقيق هدفٍ أو أهداف كان يُرجى تحقيقها. وهو أيضا إعاقة النَّشاط المتّجه نحو غاية ما، إمّا بإيقافه أو التَّهديد بإيقافه أو الإيحاء بأنّ مآله الهزيمة والخيبة. وحبَط عملُه/ سعيُه: بطَل ولم يحقِّق ثمرتَه، وكذا فسد وذهب سُدًى. ويُقال حَبطَ ماءُ البئر: ذهَب ذَهابًا لا يعودُ. ومن ثمّة، الإحباط في السياق اللغوي يتمحّض للدلالة على الفشل وانقطاع الأمل الذي يُخالطه إحساسٌ بالقنوط واللاجدوى. والإحباط في علم النفس حالة شعورية/ وجدانية مأزومة، تعتري الفرْد أو الجماعة بسبب العجز عن بلوغ هدفٍ ما، أو إشباع حاجةٍ ما أو حلّ مشكلةٍ ما، وكذا بسبب الحيلولة دُونَ تحقيقِ المرءِ رغبةً مِن رغَباتِه. ويصاحب ذلك إحساسٌ بالحسرة وخيبة الأمل. والإحباط في الاصطلاح السياسي، عجز الطبقة السياسية عموما، والحاكم خصوصا، عن تحويل الشعارات الواعدة إلى واقعٍ معيش، وتقليص الفجوة بين الموجود والمنشود، وتلبية تطلّعات الجماهير إلى غد أفضل. ويورّث ذلك لدى المحكومين شعورا بانحسار الأمل وانسداد الأفق، وإحساسا باللايقين، وعدم ثقة في الفاعلين السياسيين، وميلا إلى الاستقالة، وتراجعا في منسوب الحماسة إلى التغيير، وشوقا إلى الهروب من الواقع، أو اعتزاله نتيجة الوعي بقصور الزعيم أو محدودية السياسيين، وسوء تقديرهم إكراهات الواقع وتحدّيات المستقبل، وخذلانهم الجمهور على كيْف ما، فيتشكّل بذلك شعورٌ عامّ بالإحباط تتعطّل معه حركة التغيير، وتصبح معه خيْبة الأمل من السياسة والسياسيين عموما، وأصحاب القرار خصوصا، سلوكا موجّها لمعظم المواطنين.

والمشهود في تونس أنّ كثيرين علّقوا آمالا عريضة على حركة 25 يوليو/ تموز 2021 الاحتجاجية وعلى استجابة رئيس الجمهورية قيس سعيّد الفورية لبعض مطالبها. وظنّوا أنّها ستكون انعطافة تاريخيّة، تحمل طيّها أبعادا إصلاحية عميقة وقوّة تغييرية شاملة، ستؤسّس لسيادة القانون، وحوْكمة المؤسسات، ودولة الحق والواجب، وستنتقل بالبلاد من الاضطراب إلى الاستقرار، وبالناس من الفقر إلى الرخاء، ومن جحيم غلاء الأسعار إلى تحسين المقدرة الشرائية، ومن وطأة البطالة إلى وفرة العمل. ومع مرور الأيّام، يبدو أنّ هذه الآمال آلت إلى الانحسار على التدريج، وبدأ يدبّ بدلا منها شعورٌ بالإحباط لدى معظم السياسيين والاقتصاديين وطيف معتبر من جموع المواطنين. وللإحباط في السياق التونسي الراهن أسباب شتّى، وتجلّيات دالّة عدّة.

بعد خمسين يوما ويزيد من قيام حركة 25 يوليو 2021، وإعلان رئيس الجمهورية تدابير استثنائية لإدارة البلد، أضحى الإحباط شائعا في الشارع السياسي التونسي. غلاة الحركة الاحتجاجية المذكورة، وطيْف من أنصار الرئيس، محبطون، لأنّهم كانوا يتوقّعون أنّ قيْس سعيّد سينصب المشانق لخصومه، وسيُعسْكر البلد بالتمام والكمال، وسيدخل في مواجهة دموية مع حركة النهضة، وسيزجّ أنصارها في السجون، وسيحلّ الأحزاب، والهيئات المدنية والحقوقية، وسيصادر حرّية التعبير، وسيُلغي دستور 2014، ويقيم نظاما مجالسيا. لكن الرئيس لم يفعل ذلك كله، أقله إلى الآن. وذلك راجع إلى خلفيته الأكاديمية/ الدستورية من ناحية، وإلى خشيته من أن يظهر أمام ناخبيه وأمام العالَم في مظهر من يناقض نفسه باعتباره أقسم على احترام الدستور والحريات العامّة، والخاصّة، وتزعّم تيّار أخلقة الحياة السياسية. كما أنّ قوّة مكوّنات المجتمع المدني التونسي، وتشبّثها بمكتسبات الثورة ومنجزاتها الدستورية والحقوقية، والضغوط الخارجية الصادرة من دول العالم الحر التي استثمرت في الديمقراطية التونسية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، مجموعة السبع)، حالت دون إقدام الرئيس على تلبية مطالب فوضوية، طوباوية لبعض أنصاره الإقصائيين، لذلك اعتراهم شعورٌ بالإحباط.

قال قيس سعيّد مراراً إنّه لا سبيل للعودة إلى الوراء، لكنّه لم يوضّح للناس كيف سيسير بهم إلى الأمام

وعلى الضفّة المقابلة، خصوم الرئيس مستاؤون، لأنّه مدّد الحكم الاستثنائي إلى أجل غير معلوم، ولأنّه يلوّح بإمكان تعديل دستور 2014 في غياب المحكمة الدستورية وتجميد البرلمان. وهو دستور توافقي، تقدّمي، ساهمت في صياغته القوى المدنية الحيّة في تونس، وصدّق عليه المجلس التأسيسي بأغلبية واسعة. كما أنّ مخالفي الرئيس مغتاظون من تأخّر تشكيل الحكومة، ومن إمساك الرئيس بزمام السلطات الثلاث، وكذا من تواتر الانتهاكات التي رافقت حالة الاستثناء، من قبيل منع مواطنين من السفر من دون مبرّر قانوني، وفرْض الإقامة الجبرية على آخرين من دون إذن قضائي، ومحاكمة مدنيين أمام القضاء العسكري، وغلق مقر هيئة مدنية وقناة تلفزية. ويخشون من أن تحلّ دولة المداهمات والتعليمات بديلا عن دولة القانون والمؤسّسات، وتتمّ استدامة الحكم الاستثنائي إلى ما لا نهاية، على نحوٍ يؤسّس لبوادر قيام دولة شمولية. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنّ أنصار الرئيس وخصومه يتساءلون: إلى أين نحن ذاهبون؟ وهو سؤالٌ أمْلته الحيْرة، والشعور باللايقين والإحباط في آن.

في خصوص الشارع الاقتصادي، بعث رئيس الجمهورية رسائل تحذيرية قوية إلى المضاربين، وشارك في حملاتٍ أمنية ميدانية على مستودعات محتكرين، وحثّ التجار على تعديل الأسعار، ووجدت تلك الجهود الرئاسية صدىً إيجابيا لدى المواطنين. لكن بعد أيّام معدودة، فوجئ المستهلكون بارتفاع جنوني لأسعار المواد الأساسية، وبانقطاع تزويد السوق بمواد أخرى (الزيت النباتي، الماء المعدني، السكر ..)، فاعترى الناس شعورٌ بالإحباط بعد نشوة ظرفية. وأغلق مستثمرون مصانعهم، وأحالوا عائلاتٍ بأسرها على البطالة، وهرّب آخرون أموالهم إلى الخارج، وتعلّلوا بأنّ مناخ الاستثمار أصبح غير ملائم وغير مطمئن بعد 25 يوليو 2021. وعبّر رجال أعمال عن إحباطهم بسبب وطأة التدابير الاستثنائية عليْهم، وبسبب الملاحقات الأمنية غير المبرّرة ضدّهم. وفي هذا السياق، أصدرت منظّمة "تونس تنتج" بيانا جاء فيه أنها "تسجل بقلق تواصل عمليات التضييق والمعاملة (التمييزية) التي يتعرّض لها أصحاب المؤسسات وحاملو صفة مدير ووكيل شركة في المطارات التونسية، حيث يتعرّضون بسبب الصفة المهنية إلى استشاراتٍ أمنية تدوم من ساعتين إلى ثلاث ساعات، الأمر الذي يتسبّب في تخلف كثيرين منهم عن الالتحاق بالطائرة، بالإضافة إلى منع عدد منهم من السفر، من دون أن يكونوا محل تتبع قضائي أو تقديم تفسير منطقي". وذكرت المنظمة أنّ "تواصل هذا الإجراء الذي يجعل المهنة (شبهة) له انعكاسات سلبية على مناخ الأعمال والإنتاج في تونس، إذ يوجّه رسالة ضمنية، مفادها أن المستثمرين في تونس مجرمون ومستهدفون بشكل جماعي، وهذا يتسبب في انكماش العمل والاستثمار، ويخلق مناخا من الضبابية، ويُعطّل عمل جزء كبير من المؤسسات العاملة في مجال التصدير وفي الأسواق الخارجية".

يمكن تفسير ارتفاع إقبال التونسيين على الهجرة غير النظامية بحالة اللايقين السياسي، والتدهور الاقتصادي في البلد

على الصعيد الاجتماعي، ساهمت مؤسسة الرئاسة، بالتعاون مع الإطار الطبي والجيش الوطني، في تكثيف حملات التطعيم ضدّ وباء كورونا، وقلّص ذلك من مخاطر انتشار الفيروس. ووجدت تونس في هذا الخصوص دعما كبيرا من دول أجنبية وعربية شقيقة. وبعث ذلك الارتياح في صفوف المواطنين. لكنّ البلاد شهدت أحداثا احتجاجية بارزة بعد حركة 25 يوليو، أنتجها الإحساس بالإحباط والشعور بالتهميش وضيق الأفق. مثال ذلك تنظيم خرّيجي الجامعات الذين فاقت بطالتهم عشر سنوات وقفات احتجاجية للمطالبة بتطبيق القانون 38 الذي صدّق عليه البرلمان، ووقّع عليه رئيس الجمهورية، وينصّ على ضرورة تشغيلهم بشكل فوري. لكنّ ذلك الوعد لم يتحقّق، على الرغم من مرور شهور على إعلانه، ودفع ذلك محتجّين إلى إحراق شهاداتهم العلمية، تعبيرا عن إحساسهم بالإحباط واللاجدوى، وعن سخطهم على أصحاب القرار. وفي سياق أكثر تراجيديةً، أقدم كهل تونسي على إحراق نفسه في شارع الحبيب بورقيبة، ما أدّى إلى وفاته. وبقطع النظر عن الأسباب، فإنّ حرْق الجسد إحباطُ قاتل، وعنوان انسداد أفُقٍ وضيق بالأنا والآخر، وصرخة احتجاج في وجه المتنفذين والمستكرشين وصُنّاع القرار. وزاد أخيرا الهروب من البلد، بطريقة شرعية أو غير شرعية، حتّى بدت تونس طاردة عقولها المبدعة وشبابها الطموح. وفي هذا الخصوص، كشف موقع "مهاجر نيوز"، وتديره ثلاث مؤسسات إعلامية أوروبية، أن عدد التونسيين الذين وصلوا إلى سواحل إيطاليا بطريقة غير نظامية في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، بلغ 3904 مهاجرين، بزيادة بلغت 40% مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. وجاء أحدث تقرير صادر عن "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" (سبتمبر/ أيلول 2021)، على تنامي ظاهرة "هجرة العائلات والنساء"، فمن بين الواصلين خلال أغسطس/ آب المنقضي 502 قاصر غير مصحوبين بذويهم، و138 قاصرا مع ذويهم و149 امرأة. وأورد التقرير أنه خلال شهر أغسطس، تم إحباط 317 محاولة هجرة، مقارنة بـ191 محاولة خلال الشهر نفسه من 2020، أي بارتفاع بنسبة 38%. ويمكن تفسير ارتفاع إقبال التونسيين على الهجرة غير النظامية بحالة اللايقين السياسي، والتدهور الاقتصادي في البلد، وتنامي الشعور بالإحباط بسبب تفشّي الفقر والبطالة. لذلك كتب أحد الطلبة على جدار مركّب جامعي بسوسة "عذرا أمّي .. المستقبل وراء البحر".

ختاما، يبدو أنّ حركة 25 يوليو 2021 بلا أفق، وبلا طاقةٍ تغييريّة فعّالة، وبلا خطّة واضحة لحلّ معضلات تونس العديدة. لقد قال الرئيس قيس سعيّد مرارا إنّه لا سبيل للعودة إلى الوراء، لكنّه لم يوضّح للناس كيف سيسير بهم إلى الأمام. يبدو أنّ المسْألة ما انفكّت غامضةً، وكلّما اتّسع غموضها اتّسع مجال الإحباط، واللايقين، وكانت لذلك تداعياتٌ سلبية على الحاكم والمحكوم لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.