كل هؤلاء مع ماكرون
كان بالغَ الاستثنائية احتفاءُ المغرب، ملكاً وحكومة وأحزاباً، موالاة ومعارضة، بزيارة الدولة التي أدّاها الرئيس الفرنسي، ماكرون، للرباط، الأسبوع الجاري. وفي الوسع أن يُماشي واحدُنا الوصف التقليدي الذي خُلع على الزيارة بأنها "تاريخية". ما لا يرجع إلى أنها أنهت "فتوراً" في العلاقات الفرنسية مع الملك محمد السادس، وإنما إلى المدى المتقدّم الذي بلغتْه مناصرةُ باريس تصوّر الرباط بشأن قضية الصحراء، الحكم الذاتي في إطار سيادة المغرب على صحرائه. وإذا مضت إدارة ماكرون، كما هو متوقّع، إلى إقامة ممثليّة فرنسيّة في العيون (كبرى ولايات الصحراء المغربية)، فإن الدبلوماسية المغربية في هذا تحقّق مُنجزاً شديد الأهمية في الصراع السياسي والدبلوماسي الحادّ والصعب، والذي تخوضه لتأكيد مغربيّة إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب. ولمّا بلغت عقود الاتفاقيات التجارية والاستثمارية وغيرها التي جرى توقيعها في زيارة الدولة للرئيس ماكرون عشرة مليارات يورو، تضاف إلى الحضور الفرنسي النافذ في شرايين المقطع الاقتصادي والاستثماري والإنمائي في المغرب، فإن هذا يعني، من بين كثيرٍٍ يعنيه، أن فرنسا تحافظ على مكانة الصدارة التي تحتلها في خريطة علاقات المغرب الخارجية، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تزاحمها في هذا. ولا حاجة للاستدلال بشواهد حاضرة على النفوذ اللغوي والثقافي والسياسي لفرنسا في راهن المغرب الذي يأخذ في تنويع علاقاته القوية في الفضاءات الأوروبية والأميركية والأفريقية والآسيوية.
لافتٌ في زيارة ماكرون أن الوفد الذي رافقه كان ضخما، بلغ نحو 190 اسماً، أُعلنت 120 منها، بينهم، إلى جانب وزراء عديدين (الخارجية والداخلية والدفاع والتعليم العالي والثقافة و... إلخ)، برلمانيون ووزراء سابقون، ومدراء شركات ورجال اقتصاد وأعمال. ولافتٌ أن في الوفد نحو 50 من أهل الأكاديميا والعلوم والرياضة والثقافة والفكر والفنون، بينهم مغاربة الأصول (الروائيان الطاهر بنجلون وليلى سليمان والمخرج نبيل عيوش وغيرهم). وإذ انتقدَت بعض الميديا الفرنسية هذه الضخامة في الوفد المتنوع، وتساءلت عن الكلفة المالية لسفر كل هؤلاء، فإن هناك، في فرنسا، من رأى أن ماكرون أراد استعراضيّته هذه مناسبة لتعزيز حضوره دوليا، ويؤكّد فيها مكانته، والتفاتَه إلى القوة الناعمة لفرنسا، كما كان الرئيس الأسبق ميتران يفعل. وإذا كان لنا الحقّ في استهجان رفقة الصهيونيين، برنار هنري ليفي (وزوجته المغنيّة أرييل دومباس) وجيرار دارمون، فإن لنا أن نلحظ أن الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران (مائة عام ومتزوّج من مغربية) كان من الوفد، وهو الذي أعلن عن مواقف شجاعة ومهمّة في الانتصار للشعب الفلسطيني في غزّة في غضون حرب الإبادة الجارية. والبادي في رفقة كل هؤلاء من المشتغلين في المعرفة والإبداعات الرياضية والفنية والأدبية أن فرنسا ما تزال على حرصها التاريخي، والتقليدي، على إعطاء الثقافة، في كل صُعدها ومستوياتها، مكانة متقدّمة، بل منزلةً ذات أولوية، في بناء جسور العلاقات مع الدول والشعوب. وإنها إذ تنسب أسماء مغاربية فرنسية اللغة والجنسية والإقامة إلى فضائها الثقافي، وتقدّمهم في بلادهم الأصلية على هذا النحو (مديرة اليونسكو المغربية أودري أوزلاي كانت ضمن الوفد)، فإنها تعطي درساً مهمّا، وملهماً إذا شئت، في موضوعة الدبلوماسية الثقافية، والأهلية المدنية، لتعزيز العلاقات الرسمية وتشبيك الصلات الرسمية والبروتوكولية مع العلاقات السياسية ذات الأبعاد التي تتعدّى حصر السياسة بمفهوم ضيّق.
لم يستطع ماكرون أن يخرج من جِلده، وهو يأتي على "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، في خطابه في البرلمان المغربي (جاء فيه عرضا على مباراة المغرب وفرنسا في كأس العالم في قطر!)، لم يتحرّر من المنظور الضاغط في السياسة والميديا الفرنسيتين، وهو يرمي المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ويتفجّع على الإسرائيليين الذين قضوا في واقعة 7 أكتوبر (2023)، وإن مرّ مرورَه إياه على عدم جواز الإفراط في قتل المدنيين الفلسطينيين. كان الرجل، في هذا كله، يُرضي نفسه، ويداهن عديدين من النخبة المثقفة التي رافقته (لم ننس استفظاع الطاهر بن جلّون حدث 7 أكتوبر وصمتَه تاليا بشأن الإبادة المستمرّة في غزّة). ولكن الشعب المغربي ردّ عليه، ليس فقط ببياناتٍ غاضبة ومندّدة بما قال، وإنما أيضا بالمضي في المسيرات الواسعة التي تناصر الشعب الفلسطيني، وترفض التطبيع الرسمي القائم مع دولة الاحتلال.
طيّبٌ من فرنسا أنها تنتصر الآن للمغاربة في قضية الوحدة الترابية لبلدهم. وطيّبٌ من ماكرون أنه يذكّر السلطات العربية، وأجهزتها الدبلوماسية، بما للثقافة والفنون والمعرفة من مكانةٍ في شغل السياسة وتوطيد العلاقات الحضارية مع الشعوب. وليس طيّبا منه ما قارفه من كلام فاسدٍ بشأن فلسطين.