عبّود وسهريّة في أصيلة
كان طيّباً من عمرو موسى، في سهرة عشاءٍ رائقةٍ في منزل الوزير والسفير المغربي، محمد بن عيسى، في أصيلة حيث تنكتب هذه السطور، أن يذكِّر الوزير الإسباني، ميغيل أنخيل موراتينوس، بأنّ الحديث عن رهائن إسرائيليين في غزّة لا يجوز أن يغفل عن أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، وأن تكرار الكلام الكثير عن أولئك وحدَهم غير مقبولٍ، عندما لا يقترن بكلامٍ واجبٍ عن هؤلاء الفلسطينيين. وردَت إشارة موسى هذه، في أثناء نقاشٍ في المنزل التقليدي البديع، تركّز على الذي يرتكبه نتنياهو، وهذا شخصٌ يجب ألّا يُصدًّق في أي شيء، على ما قال موسى أيضاً. ضمّت السهرة نخبةً مختارةً من ضيوف منتدى أصيلة، المقام حالياً في المدينة الصغيرة الوديعة في شمال المغرب، ضمّت أربعة وزراء خارجية سابقين، صاحب الدار بن عيسى وموراتينوس وموسى ونبيل فهمي، ودبلوماسيين ومثقفين عرب وأجانب، من البحرين والمغرب واليمن والأردن وتشيلي وإسبانيا وموريتانيا. ولئن جاء الكلام على راهن العرب وسياسة الولايات المتحدة وضعف أوروبا سياسيّاً وغيرها من شؤون، إلا أنني وجدتُها عالية الأهمية إشارة عمرو موسى تلك عن ضرورة عدم نسيان الأسرى الفلسطينيين عند الحديث الذي لا يتوقّف عن أولئك الإسرائيليين، وإنْ لم يأت الدبلوماسي العتيد على ظروف احتجازهم الشنيعة، وأعدادهم التي تتزايد يومياً، ذلك أن على أي سياسيٍّ أو إعلاميٍّ غربي يصدّع رؤوسنا بالكلام عن أولئك المحتجزين، الذين تكشّفَ أن حكومتهم الفاشية ليست حريصةً على أرواحهم، ولا على إعادتهم، أن يعرف أن نحو 12 ألف أسير فلسطيني في سجون المحتلّين يغالبون تنكيلاً مروّعاً، وتمارس عليهم صنوفٌ ساديةٌ في التعذيب والاضطهاد، سيما بعد واقعة 7 أكتوبر (2023).
أصادف في الصباح التالي نبأ اختطاف المختلين المعتدين في غزّة الطفل (أو الفتى؟) الفلسطيني عبد الرحمن بطاح، والمشهور بلقبه عبّود، والذي سمّي أقوى مراسلٍ في العالم. وبالنظر إلى موهبته الأخّاذة، وجاذبيّة حضوره ونباهته، يًتابِع في منصات التواصل والشبكة العنكبوتية فيديوهاته القصيرة، الكاشفة وباهظة القيمة والممتلئة بالعفوية والصدق، نحو أربعة ملايين شخص. ولا تزيّد هنا في خلع أهميةٍ كبرى على ما يؤدّيه عبّود، وما يفضفض به، ذلك أن دوراً عظيم القيمة في الدرس الاجتماعي والثقافي العام للثقافة الشعبية الفلسطينية في أتون نكبة الإبادة الجارية في غزّة. وأظن ّأن للسخرية الحادّة، بتعبيراتها شديدة البساطة، وعميقة المغزى والوجهة والدلالة، في الذي يقوله عبّود، حماه الله، (12 عاما)، موضعَها المركزي في المتْن الغزّي في هذه الثقافة. وعندما يخطفه جيش الاحتلال في مستشفى كمال عدوان (في بيت لاهيا في شمال القطاع)، مع فلسطينيين آخرين، عن قصدٍ متعمّدٍ لشخصِه أم مع عدم درايةٍ به، فهذا سلوكٌ، يدلّ، للمرّة المليون على الأقل، على استخفاف جنود هذا الجيش بعموم الفلسطينيين، صغاراً وكباراً. وربما احتاج عمرو موسى إلى أن يأتي على هذه البديهية، وهو يذكّر موراتينوس وبعض الجمع في سهريّتنا الليلة قبل الماضية، بالأسرى الفلسطينيين، فهم القضية وليس فقط عشرات الإسرائيليين المحتجزين في غزّة، على ما قال مُحقّاً.
طبيعيٌّ أن تذهب دردشات وزراء خارجية سابقين ودبلوماسيين متقاعدين إلى ما هو سياسي، على ما رأيتُ وسمعت. وعندما يتسيّد موضوع ما تقترفه إسرائيل بقيادة نتنياهو اليوم في المنطقة، يصير من الطبيعي أن تأتي هذه الدردشات إلى السؤال عمّا يوقِف جموح هذا الرجل وحكومته، وهل هذه مسؤولية الإسرائيليين أنفسهم، على ما قال محمّد بن عيسى، أم أن على العالم، وفيه العرب، مسؤوليةً كبرى في هذا. وطبيعيٌّ أن لا تنتسب سخريات عبّود الطلْقة إلى السياسة، فهو يوجز الحديث عن الولايات المتحدة التي أخذت حيّزاً في كلام السياسيين العتاقى، في المنزل الفسيح في واحدةٍ من "زنقات" أصيلة، بأنها تُحارب الشعب الفلسطيني عندما تمتنع في مجلس الأمن عن تصويتٍ لوقف إطلاق النار، على ما قال قبل شهور. ولا يعرف الفتى الذي لا تقدِر إلا أن تحبّه الدبلوماسية، فلا يتحسّب من نعته محمود عبّاس بالغباء. وعندما يقول إن الخبّيزة (نبتة برّية) وقفت مع الغزّيين في شمال القطاع مع القضية الفلسطينية أكثر من دول عربية كثيرة، عندما لم يجدوا سواها للطبخ، فإنّ "طخّا" كهذا لا يقدر أهل الدبلوماسية العرب أن يزاولوا شيئاً منه، وإنْ يحدُث أن يجنحوا إلى انتقاد الحال العربي في العموم، كما صار في سهريّتنا.
كان عبد الرحمن بطاح (عبّود) واحداً من فلسطينيين ذكّر بهم عمرو موسى، وإنْ احتجزوه ساعاتٍ، حماه الله.